الثلاثاء، 31 ديسمبر 2013

الفردوس الأرضي - عبد الوهاب المسيري

الفردوس الأرضي
دراسات وانطباعات عن الحضارة الأمريكية الحديثة
د. عبد الوهاب المسيري

عندما نقوم باختصار كتاب ما وذلك بالتركيز على بعض الأفكار أوالآراء أوالمعلومات الواردة فيه وترك أخرى ، نكون متأثرين في اختياراتنا لما نركز عليه وما نهمله بعوامل شخصية أو ذاتية مثل آرائنا الشخصية ، تجاربنا ، خبراتنا السابقة ، اهتمامنا أو عدم اهتمامنا بقضايا بعينها ، ومواقفنا من هذه القضايا ، درجة فهمنا أو استيعابنا أثناء القراءة ، لذلك فإن قراءة أحدنا لكتاب ما (أقصد رؤيته لهذا الكتاب وطريقة اختصاره أو عرضه له و كذلك نقده له) تختلف حتما عن قراءة شخص آخر للكتاب نفسه .

يضم الكتاب الذي بين أيدينا دراسات وانطباعات كتبها وسجلها المؤلف عن الحضارة الأمريكية الحديثة ، حيث أقام في الولايات المتحدة فترة من الزمن خلال عقدي الستينيات والسبعينيات (1963 – 1969 ثم 1971) .

يتكون الكتاب من مقدمة وأربعة أبواب هي كالتالي :
(1)البرجماتية الأمريكية والبرجماتية التلمودية .
(2)عالم السلع الفردوسي
(3)الإنسان بين الأشياء والبراءة الأولى
(4)المرأة الأمريكية بين التاريخ والفردوس

وسأسير في اختصاري أو عرضي له بهذا الترتيب نفسه ، وسأعطي لنفسي قدرا من الحرية في كتابة المقدمة وفقا لفهمي للكتاب بشكل عام دون التقيد بالضرورة بما ورد فيها ، وإن التزمت به في معظمها .

مقدمة

من المعروف أنه لا فردوس على الأرض وإنما الفردوس في السماء ، ونحن نحلم بهذا الفردوس السماوي ونحمله في قلوبنا أينما سرنا ، ولا نتوقع أبدا تحقيقه هنا ، على الأرض ، ولذا فنحن نضع فيه آمالنا ، كل ما لم وما لن يتحقق "الآن" و"هنا" ، فهو حلم فردوسي كامل ، نحن في أمس الحاجة إليه رغم استحالة تحقيقه .
وهناك الحلم الثوري بحياة أفضل ، بواقع أجمل ، هو حلم ينبع من الواقع ويعود إليه ، محدود بحدوده الزمانية والمكانية وبإمكانيات هذا الواقع الحقيقية ، وحيث أنه حلم نابع من الواقع ليعود إليه لا يحق لصاحبه أن يطلق لوجدانه العنان وإنما يجب أن يظل داخل حدود الزمان والمكان .
أما الفردوس الأرضي الذي يحاول ، بل يتوهم ، البعض إمكانية تحقيقه "الآن" و"هنا" بإشباع كل رغبات البشر وذلك بافتراض وجود إنسان بسيط غير مركب لديه كم بسيط من الرغبات يمكن إشباعها ، فالإنسان وفق هذه الرؤية كم محض لا يختلف عن الكائنات الطبيعية الأخرى وهو يعكس بيئته بشكل مباشر وبسيط ، هذا المنطق الفردوسي يحاول إلغاء جميع التناقضات الاجتماعية والتاريخية لتحقيق النشوة المباشرة والدائمة ، ومن ثم فهو منطق يحل النجاح العاجل في الدنيا محل أي نجاح غيبي في الآخرة ، كما أنه يؤكد أهمية السعادة الدنيوية المباشرة ، وأيضا ينكر أن الإنسان كيف مركب فريد (وليس كما محضا) ، وأنه يصنع البيئة التاريخية التي تشكل وجدانه ، ومن ثم فهو يقف على طرف نقيض من الحيوانات التي تعيش في البيئة الطبيعية وحسب خاضعة لقوانينها الحتمية .
ويؤكد المسيري أنه لا ينكر القيمة الإنسانية والإيجابية للحضارة الغربية فهو – كما يقول – أول من يعترف بفضل هذه الحضارة على العالم ككل وعليه كفرد . ولكنه اجتزأ خاصية سلبية أساسية في الحضارة الأمريكية (والحضارة الاستهلاكية عامة) وهي معاداتها للتاريخ .
كما يقول : أرجو ألا يشتم من هذا الكتاب أنني معادٍ للعلم والتكنولوجيا ، فأنا لست بهذه السذاجة ، وأنا من المؤمنين أنه لا يمكن أن تقوم قائمة لأي حضارة عربية معاصرة إلا بأخذ مقولة العلم والتكنولوجيا في الاعتبار ، وأي بناء فكري يتجاهل هذا العنصر هو بناء في سذاجة النسق الديني التقليدي الذي يحاول أن يتجاهل الجانب الطبيعي للإنسان ، وهو أيضا في سذاجة النسق العلمي التجريبي الذي يحاول أن يتجاهل الجانب التاريخي أو الروحي للبشر . لذلك فأنا أرى أنه لا بد من العلم ، ولكن في الوقت ذاته لا بد وأن يقف العلم عند حدوده ولا يدعي لنفسه ما لا يملك .
فالعلماء قد يعالجون تفصيلات الوجود المادي (الطبيعي) للإنسان ، أما وجوده التاريخي المرتبط بقوانين التاريخ وبقضية العدالة والتنظيم الاجتماعي فهذا ما لا يمكن للعلم معالجته . إن العلم يتعامل مع عالم الطبيعة وحسب ، وحينما يتعامل مع الأنسان فإنه يتعامل معه على أنه كائن طبيعي ، أما الإنسان ككيان تاريخي مركب فهذا هو مجال الفلسفة والأيديولوجية .
لا داعي إذن للحديث عن العلم بشكل مجرد كما لو كان هو الذي سيحل مشاكلنا ، لأنه لن يفعل ، وإنما الذي سيحلها هو العثور على الصيغة الملائمة لنا والتي عن طريقها سنُدخل العلم والتكنولوجيا على العالم العربي بتراثه التاريخي الإنساني الرائع ، دون أن نضحي بهذا التاريخ ونلقي به في البحر كما يطلب منا البعض .
التقدم العلمي في المجتمعات الرأسمالية أصبح هدفا في حد ذاته بغض النظر عن العائد المعرفي أو الإنساني له وبغض النظر عن مقدار البؤس أو السعادة التي يجلبها للبشر ، وأصبحت مضاعفة الإنتاج أمرا مرغوبا فيه دون أي اعتبار لحاجات الإنسان الحقيقية (وليس الحاجات المادية الزائفة) ودون أي احترام لإمكانيات البيئة الطبيعية ، أي أن هدف الإنتاج لم يعد إشباع الرغبات الإنسانية وإنما أصبح هو ذاته الهدف والمثل الأعلى ، وهذا هو قمة الاغتراب . وتدور عجلة المصانع في سرعة خرافية لتنتج سلعا وأشياء لا يريدها الإنسان ولكنها في دورانها تلوث البيئة بالأحماض والعادم الصناعي فتدمر الإنسان من الخارج ، ثم تغرقه في السلع والتفاصيل وتدمره من الداخل .
يتحدث المسيري عن إيمان المجتمعات الرأسمالية المجنون بفكرة التقدم – التقدم دائما وبأي ثمن ونحو أي اتجاه وبغض النظر عن مقدار السعادة أو البؤس الذي يحيق بالبشر – لكن التقدم والحركية والسلام ، إلى أن يصبحا هدفا في حد ذاتهما تماما مثل دائرية الطبيعة العبثية التي تتحرك دون توقف .
هل مجرد "إنتاج" سلعة ما هو "تقدم" ، أم أن التقدم والتخلف يقاسان بمقاييس تقع خارج نطاق الأشياء والكم وأنه لا يمكن استخلاص هذه المقاييس إلا من ظاهرة الإنسان نفسه ومن بيئته التاريخية ذاتها ؟
يقول المسيري : وقد وجدت أنه قد يكون من المفيد أن أسجل انطباعاتي وأكتب دراساتي منطلقا من إيماني بالإنسان على أنه كائن طبيعي – تاريخي : كائن يحلم دائما بالفردوس ولكنه يعيش في التاريخ . وقد لاحظت أن الإنسان في الولايات المتحدة يهرب من التاريخ ليعيش في الفردوس ، ومن يهرب من التاريخ ليعيش في الفردوس ينتهي به الأمر إلى الجحيم ، فالإنسان الذي يرفض فكرة الحدود التاريخية ليمرح في فردوس اللاحدود سينتهي به الأمر في عالم الصدفة العبثي الذي لا يحكمه قانون ، والجحيم هو الصدفة والعبث .
إن الإنسان وجود جدلي : جسد وروح ، "واعمل لدنياك "وجسدك كأنك تعيش أبدا ، واعمل لآخرتك (وروحك) كأنك تموت غدا" . والمجتمعات الاستهلاكية التي تظن أنها قادرة على إشباع جميع رغبات الإنسان والتي تعرف هذه الرغبات بشكل كمي مسقطة احتياجاته الروحية من الاعتبار ، هذه المجتمعات تتجاهل ازدواجية الإنسان وتسبب البؤس للبشر .   
وعن تشابه التجربة الأمريكية بالتجربة الإسرائيلية يقول المسيري في المقدمة :
الديانة اليهودية ديانة حلولية تخلط بين المطلق والنسبي ولا تركز على فكرة البعث في عالم آخر ، وتزخر بأفكار مثل عودة الماشيح وآخرة الأيام ، وهي أفكار تؤكد فكرة الفردوس الأرضي ، واليهودية بهذا تنمي في تابعيها الحساسية الفردوسية وتجعلهم مؤهلين أكثر من غيرهم لأن يتقبلوا قيم المجتمعات الاستهلاكية .


الباب الأول : الرجماتية الأمريكية والبرجماتية التلمودية

صهيون الجديدة في الولايات المتحدة وإسرائيل

لا يملك الدارس للوجدان الأمريكي والصهيوني إلا أن يلاحظ التشابه والتطابق بينهما ، ولعل أهم صفات التشابه بين الوجدانين أن كليهما يرفض التاريخ بعناد وإصرار ، أو على الأقل يحوله إلى أسطورة متناهية في البساطة . وقد بدأ التاريخ الأمريكي حينما استقل البيوريتانيون سفنهم وهاجروا من أوروبا إلى العالم الجديد أو أرض الميعاد هربا من المشاكل التي أثارها "التاريخ الأوروبي" . والبيوريتانيون أو المتطهرون هم لفيف من البروتستانت المتطرفين الذين وجدوا أنهم من العسير عليهم البقاء داخل الكنيسة الإنجليزية لأنها – حسب تصورهم – لم تبتعد بما فيه الكفاية عن النمط الكاثوليكي في العبادة بما فيه من طقوس وتماثيل وزخارف ، وطالبوا بـ"تطهير" العبادة المسيحية من كل هذه العناصر الدخيلة التي لم يأتِ لها ذكر في العهد القديم أو الجديد . إن "العودة" للبساطة الأولى كانت الهدف الأسمى للمتطهرين الذين حاولوا تشييد مدينتهم الفاضلة (أو صهيون الجديدة كما كانوا يسمونها) حسب المثل والقواعد التي وضعها وطبقها المسيحيون الأول . ولذا يمكننا القول إن الوجدان البيوريتاني يرفض التاريخ المسيحي كله ، بل يرفض أية رؤية تاريخية على الإطلاق لأن العودة "للبساطة الأولى" (وهي نقطة سكون ميتافيزيقية غير متطورة أو متغيرة) تصبح واجب كل فرد في كل زمان ومكان .
والرفض البيوريتاني الأمريكي للتاريخ الأوروبي يقابله الرفض الصهيوني الإسرائيلي للتاريخ اليهودي في الدياسبورا (الشتات) . فالصهاينة يرون أن الوجود اليهودي في أي حضارة غير يهودية ظاهرة شاذة وعلامة على المرض الروحي ، ولذلك فهم أيضا يعودون "للبساطة الأولى" أيام كان اليهود يعيشون ككيان قومي مستقل فريد لم تدخل عليه الشوائب (التاريخية) غير اليهودية المختلفة . والصهاينة يرون أن التاريخ اليهودي يؤدي إلى النهاية الإسرائيلية السعيدة ، وفي الفردوس اليهودي الجديد يحمل كل المواطنين أسماء عبرانية لها رنين خاص (على عكس يهود الحركة الإصلاحية في أوروبا الذين تخلوا عن أسمائهم العبرانية وسموا أنفسهم بأسماء أوروبية لا تميزهم عن الشعوب التي ينتمون إليها) .
إن أسطورة العالم الجديد الذي يتحلى بالبساطة والبراءة والذي هو أقرب إلى الفردوس الأرضي تسيطر على الوجدانين الأمريكي والصهيوني .
ولم يختلف فهم البيوريتان لمدينتهم الفاضلة كثيرا عن فهم الصهاينة لإسرائيل ، فهم كانوا مقتنعين تمام الاقتناع أنهم إنما هاجروا من أوروبا إلى العالم الجديد لينشئوا "مدينة على التل" تنظر إليها كل الأمم وتحاكي أفعالها ، وبذا يعم الخير ويأتي الخلاص . وكان المفهوم البيوريتاني للتاريخ مفهوما دينيا ضيقا يرى في كل شيء علامة مرسلة من الله يستشهد بها على شيء ما ، وكما هو الحال مع الإسرائيليين نجد أن البيوريتانيين استخدموا هذه العلامات "الربانية" لتبرير كل أعمالهم العدوانية من إبادة للهنود الحمر واحتلال لأراضي الغير (تزاوج بين الأحلام الدينية والأحلام القومية التوسعية) . إن الجنرال الأمريكي مثل الجنرال الإسرائيلي عنده إحساس بأنه صاحب رسالة خاصة وأنه قد "اختير" لتنفيذها ، ولذلك فهو يقوم بالتخريب والتدمير والفتح والغزو والنهب في منتهى البراءة ودون أن يهتز له جفن .
وعقلية الريادة تسيطر على كل من الصهاينة والأمريكيين ، فالبيوريتانيون "اكتشفوا" أمريكا ثم انتشروا فيها عن طريق إنشاء مستعمرات ذات طابع زراعي عسكري . والمستوطنون الصهاينة هم الآخرون "اكتشفوا" فلسطين واحتلوها بالطريقة نفسها . وعقلية الرائد عقلية عملية تفضل الفعل على الفكر ، والنتائج العملية على الاعتبارات الخُلُقية .
ولعل نقطة التشابه الأساسية بين الوجدانين الأمريكي والصهيوني الإسرائيلي هو العنف العنصري ، فرفض التاريخ نتج عنه تعامٍ عن الواقع وتجاهل لكل تفاصيله ، ولذلك وقع البيوريتانيون والصهاينة في تناقضات رؤياهم المثالية القبيحة ، رؤيا عالم جديد بريء بسيط لا يمكن أن يشيد إلا عن طريق العنف والإبادة "إبادة الهنود الحمر والفلسطينيين" ، الفردوس والجحيم في آن واحد .
وليس من قبيل المصادفة أن شعار"أرض بلا شعب وشعب بلا أرض" قد تبناه كل من البيوريتانيين والصهاينة ، وليس من قبيل المصادفة أيضا أن المجتمعين الإسرائيلي والأمريكي من أكثر المجتمعات عنصرية إن كان من ناحية الواقع الاقتصادي أو البنية الحضارية .  وقد يكون مما له دلالته وطرافته أن مؤسسي الجمهورية الأمريكية بعد إعلان الاستقلال قد فكروا في جعل اللغة العبرية لغة الدولة الرسمية باعتبار أن الجمهورية الوليدة هي صهيون الجديدة ، ولكن الاعتبارات العملية جعلتهم يعدلون عن تهيؤاتهم .
ومن المعروف أن الحضارة الأمريكية لا تزال متأثرة إلى حد ما بالأوهام والأساطير والرؤى البيوريتانية على الرغم من مرور عدة قرون وعلى الرغم من التحولات العديدة التي طرأت على بنية المجتمع الاقتصادية . وهناك ما يشبه الإجماع بين مؤرخي الحضارة الأمريكية على أن دراسة هذه الحضارة دون استيعاب الوجدان البيوريتاني أمر غير مجدٍ ولا طائل من ورائه لأنه لا يمكن الإحاطة إحاطة كاملة بجوهر هذه الحضارة وروحها دون الرجوع للإطار الأول الذي صاغه البيوريتانيون .
إذا كان الأمر كذلك يمكننا أن نخلص إلى أن الأفكار الأسطورية الزائفة لها تأثير عميق على الوجدان الإنساني وعلى سلوك البشر ، وأن هذه الأفكار رغم زيفها قد تعمر طويلا وقد تأخذ أشكالا عديدة مما يدعونا إلى عدم التفاؤل بخصوص الجماهير الإسرائيلية ضحية الأساطير الصهيونية ، فهي ستبقى أسيرة هذه الأساطير والرؤى بعض الوقت . ولذا يجب ألا نتوقع أن أزمة اقتصادية أو اثنتين أو أن انتصارا فدائيا أو اثنين سيزلزلان كيانها ، بل ينبغي علينا أن نتوقع خوض حرب طويلة ومريرة عسكرية أو حضارية وذلك قبل أن يتحرر الإنسان الإسرائيلي من أوهامه الصهيونية الطوباوية وقبل أن يرضى بالعيش في دولة علمانية غير عنصرية .
وعلى المستوى الإعلامي يجب أن نضع في اعتبارنا أنه من اليسير على الشعب الأمريكي فهم العقلية الإسرائيلية والتعاطف مع الشعب الإسرائيلي وقيمه اللاأخلاقية من عنصرية وعنف ، نظرا للتشابه بين وجداني الشعبين . وهذه النتيجة ليست فيها أية دعوة لليأس ، وإنما هي مجرد تعرف على عنصر موجود بالفعل إن لم نعترف به هزمنا وأفشل خططنا ، أما اعترافنا به فيساعدنا على معرفة حدود ومدى أي حملة إعلامية نقوم بها . إن الشعب الأمريكي وقادته الذين تسيطر عليهم عقلية الرائد والكاوبوي لا يفهمون سوى منطق القوة ولا يحسون إلا بالنتائج العملية المباشرة ، ولذلك فالإعلام الذي لا تسنده قوة أو وضع قائم بالفعل ما هو إلا دعوة للأخلاق الحميدة لا ينصت لها إلا ذوو النوايا الطيبة ، وحتى هؤلاء سينسونها وينسوننا بعد دقائق . أما أنابيب البترول التي تحمل الأرباح الطائلة لأرض الميعاد الأمريكية فهي لا تنسى أبدا في عالم الحق والبترول والفضيلة .
 
بوتقة الصهر بين الولايات المتحدة وإسرائيل

من نقط التشابه الرئيسية بين المجتمعين الإسرائيلي والأمريكي أن كليهما مجتمع استيطاني يتكون من المهاجرين الذين عليهم أن يطرحوا عن أنفسهم هويتهم القديمة ليكتسبوا هوية قومية جديدة بمجرد وصولهم إلى نيويورك أو حيفا . واكتساب الهوية الجديدة هو مشكلة المشاكل بالنسبة لكل المجتمعات الاستيطانية الرافضة للتاريخ والتراث والتي تفبرك "تراثا جديدا" يدور حول أسطورة بسيطة يؤمن بها "الإنسان الجديد" .
ولكن نظرة واحدة على المشهد الأمريكي وعلى أسطورة بوتقة الصهر الحضارية ، حيث ينصهر المهاجرون الجدد في كل أمريكي واحد جديد ، نظرة واحدة تبين أن البوتقة لم تحقق المتوقع منها .
ويمكن القول إن الأسطورة لم تكن أبدا حقيقة اقتصادية اجتماعية ، وإنما كانت مفهوما له فعالية عاطفية قوية .
يقول المسيري : حينما ذهبت إلى نيويورك عام 71 لم أقابل بشرا أو أفرادا ، كما لم أجد بوتقة أو أتونا ، بل قابلت جماعات قومية متنافرة أو مواطنين حددت هويتهم بشكل قومي ضيق فهم إما سود أو يهود أو أيرلنديون ... ، فالكل الأمريكي المتجانس لا وجود له .
ومن المعروف أن ظاهرة التفتت القومي (التي يواجهها المجتمع الأمريكي الآن بصورة مخففة) هي أخشى ما يخشاه حكام إسرائيل ، وهي ظاهرة تطل برأسها في فترات السلم النسبي التي تعيشها إسرائيل (مثل الفترة ما بين 56 و67) ، وتعبر عن نفسها في ما يسمى بالأمتين الإسرائيليتين : إسرائيل اليهود الشرقيين وإسرائيل اليهود الغربيين ، ولكن داخل كل "إسرائيل" يوجد جماعات قومية صغيرة لا تزال إلى حد ما مزدوجة الولاء .. ألمان .. فرنسيون .. وهذا يذكرنا بالفشل الذي لاقته بوتقة الصهر الأمريكية .
ولكن ثمة فروق أساسية بين البوتقتين ، فالحصار الحضاري العربي المستمر يساعد الجماهير اليهودية المهاجرة إلى إسرائيل على الذوبان في فابريكة الصهر الإسرائيلية ، كما أن عملية فبركة تراث يهودي خالص من تراث الدياسبورا (الشتات) المتنوع أمر أيسر كثيرا من خلق التراث الأمريكي من نقطة الصفر . ولعل بعث اللغة العبرية في العصر الحديث من أهم الأدلة على أن بوتقة الصهر الإسرائيلية قد تصيب من النجاح ما لم تصبه أختها الأمريكية .

علمانية كاملة

المجتمع الأمريكي مجتمع علماني بمعنى الكلمة ، لا تسيطر عليه أية آراء كلية عن طبيعة الإنسان والكون . وعلمانية المجتمع الأمريكي الكاملة وتحرره من الوعي الأخلاقي والتاريخي جعلت العقل الأمريكي ديناميا ومتحررا إلى أقصى الحدود ، متطلعا إلى معرفة كل شيئ بغض النظر عن الاعتبارات الخلقية او الجمالية أو حتى النتائج العملية أو الإنسانية لهذه المعرفة . فعلى سبيل المثال كتب مؤلف أمريكي دراسة عن "حسابات" جورج واشنطن مؤسس الدولة الأمريكية ليثبت أنه كان مختلسا ، وكنت أعرف صديقا ماركسيا يكتب عن حياة فلاديمير اليتش الجنسية ، وصديقة تكتب بحثا عن الشذوذ الجنسي بين البلاشفة ، وصديقا ثالثا يكتب عن عدد صور الدم في المسرحيات الشعرية الإنجليزية في القرن السابع عشر . وقد يكون من المفيد أن نعرف إن كان واشنطن مختلسا أم لا ، وإن كانت حياة فلاديمير اليتش الجنسية سوية أم لا ، ومدى شيوع الشذوذ الجنسي بين البلاشفة ، وصور الدم في المسرحيات الشعرية الإنجليزية في القرن السابع عشر ، ولكن كل الاستنتاجات التي سنصل إليها ستظل مجرد تفاصيل مبعثرة إن لم توضع داخل إطار تاريخي فلسفي شامل . ولكن الأمريكي لا يشغل باله بهذا الإطار لأنه لا يحب أن يصدع رأسه بالتفكير في الحقيقة ، إنما يحاول دائما أن يفعل ما يريد وما تمليه عليه الاعتبارات النفسية الذاتية أو العملية المباشرة .

العنف البرجماتي

يقول المسيري : بينما كنت بمفردي أمام المكتبة في فناء جامعة كولومبيا عام 63 إذا بفتاة تأتي وتحييني وتسألني عن جنسيتي فأخبرتها : عربي مصري ، وعندما سألتها عن جنسيتها أخبرتني أنها يهودية ، ودهشت لأنا أخبرتني عن دينها وليس عن جنسيتها . ثم استمر الحديث إلى أن وصل للمسألة الفلسطينية واللاجئين ، وساعتها كان تحفظي إزاء إسرائيل ليس تحفظا سياسيا (باعتبار أنها قاعدة للإمبريالية) وإنما أخلاقيا (باعتبار أنها الدولة التي طردت الفلسطينيين) ولذا أخبرتها أنه يمكن حل المشكلة بإعادة اللاجئين إلى ديارهم ، ففوجئت بها تتحدث عن تخلف العرب العلمي والتكنولوجي وأنه لذلك لا أحقية لهم في فلسطين . لقد سقط الحق التاريخي والإنساني فجأة وحل محلهما فكرة السلاح والبقاء للأصلح . وبعدها أينما سرت وأينما تحدثت عن فلسطين كان هذا الشعب الأمريكي البرجماتي لا يتحدث إلا عن فوهة المسدس ومن أسرع من من ؟ ومن قتل من قبل من ؟ حقا إنه زمن الحق الضائع كما يقول الشاعر المصري .
لكل هذا ترتبط البرجماتية في ذهني بالعنف الذي لا عقل له ، وحينما قرأت في كتاب المختارات (مختارات من كتابات وليم جيمس فيلسوف البرجماتية الأمريكية والذي أعطاه إياه أحد أساتذته – وكان مفكر صهيوني يدعى هوارس ماير كالن وهو تلميذ لجيمس هو من انتقى هذه المختارات وقدم لها) تحققت كل قناعاتي من أن فلسفة جيمس رغم غطائها الإنساني المرن البراق تخفي الحد الأقصى من العنف .
والفلسفة البرجماتية اشتقت اسمها من الكلمة الإغريقية "براجما" أي فعل ، فهي فلسفة تدعي أنها تدرس السلوك الإنساني دون أوهام نظرية عن التاريخ أو الحقيقة وأنها تشجع الفعل وتقلل من أهمية التنظير .
ووفق هذه الفلسفة كما يقول المسيري يعيش الإنسان في خطر دائم وصراع لا نهاية له في عالم متغير لا ضمان فيه لأي شيء ، عالم تحفه المخاطر لا قوانين فيه ولا روابط ، وهنا تبرز أهمية الإرادة الفردية المتحررة من أية قيود أو أغلال ، فالحقيقة هي ما تعرفه أنت عن الواقع ، ونحن – حسب تصور جيمس – لو آمنا بفكرة ما لأننا شئنا ذلك فهذا ليس بالضرورة خداعا فالواقع هو رؤيتي وقناعتي ، والمعرفة – كل المعرفة – نسبية وذاتية ، والإنسان حر في أن يصدق أو لا يصدق أي شيء ما دام تصديقه أو عدم تصديقه لا يتناقض مع تجربته ومعرفته العمليتين (وهما مختلفتان اختلافا بينا عن وعيه الاجتماعي التاريخي) ، فالإنسان في ظل هذه الفلسفة يفعل ما يشاء ولا يعرف إلا ما يجرب ولا يوجد داخل نسق متكامل من القيم والافتراضات ، فالقيم الإنسانية العالمية الشاملة التي تتسم بشيء من الثبات هي في الواقع قيم اتفقنا نحن وضعيا على أنها عالمية وشاملة بينما هي في حقيقة الأمر ليست كذلك ، فكل شيء نسبي متغير والشيء الحقيقي هو ما ينجح ، فأي شيء ينجح في أن يحرز مكانة خاصة به وفي أن يفرض نفسه على تيار التغير تصبح مكانته قائمة وثابتة ، فالطبيعة تلد كل شيء ولا تتحيز لأي شيء ، ولا يوجد شيء أحق من أي شيء آخر أو فضيلة أهم من فضيلة أو رذيلة أخرى .
هذا العالَم البرجماتي العملي هو ولا شك عالم البقاء للأصلح ، يُنْظَر للإنسان على أنه كائن طبيعي تنطبق عليه كل القوانين الطبيعية شأنه في هذا شأن أي كائن آخر ، والقانون الذي يحكم الجميع هو قانون البقاء للأصلح .

المثالية والموضوعية وجهان لعملة واحدة

البرجماتية فلسفة الإرادة المطلقة تدعي أيضا أنها تؤمن بالحقائق الموضوعية والحقائق الموضوعية وحدها . وقد يبدو أن هناك تباينا واضحا بين المطلق البرجماتي المثالي والمطلق البرجماتي الموضوعي ، ولكن بقليل من التمحيص نكتشف أن المثالية هي الوجه الآخر للموضوعية الميكانيكية . فالرصد البرجماتي للواقع مبني على فصل العناصر عن بعضها وعن ماضيها وبالتالي عن وزنها الفعلي ثم يقوم الدارس بعد ذلك بتبويبها . فلو نظرنا للصراع العربي الإسرائيلي من منظور برجماتي محض للاحظنا أن هناك طرفين للصراع : واحد عربي وآخر إسرائيلي ، ثم للاحظنا أن العرب عندهم مطالب في فلسطين وكذلك الإسرائيليين ، وأن العرب عندهم بعض الحق وكذا الإسرائيليين . ومن هنا نصل إلى درجة من الحيادية الرهيبة ، فالرصد البرجماتي هو عملية تراكم كمية للمعلومات لا رأس لها ولا قدم وإنما ينتج عنها كوم هائل لا اتجاه له ، وهو لا اتجاه له لأن مضمونه لم يحدد عن طريق العناصر الكيفية الموجودة خارج البناء ذاته . فالصراع العربي الإسرائيلي يتكون من عرب حقا وإسرائيليين ، ولكن العرب هم أصحاب المنطقة تاريخيا وفعلا وهم الأغلبية الساحقة التي كانت تقطن في فلسطين ولا يزالون هم الأغلبية الساحقة التي تحيط بفلسطين وتؤيد الفلسطينيين في مطالبهم ، إذ لا يمكن فصل فلسطين عن المنطقة ، ولذا فالإسرائيليون ليسوا جانبا في الصراع وإنما هم العنصر الدخيل الذي فرضته الإمبريالية الغربية . إذا نظرنا للقضية بهذا المنظار التاريخي لاختل التوازن ولتحدد الاتجاه ولاكتسب كم المعلومات البرجماتية رأسا وعقلا واتجاها ، ولكن البرجماتي لا يفعل ، فهو يريد تحييد الواقع كي يفعل ما يريد معه وكي يفرض عليه الاتجاه الذي يروق له . وبذا نجد أن الرصد البرجماتي الموضوعي للواقع لا يختلف كثيرا عن التحليق المثالي عنه ، فكلاهما الغرض منه تذويب الواقع أو كي نتوخى الدقة تذويب اتجاه الواقع حتى يصبح ولا اتجاه له فنفعل به ما نشاء . والدارس للدعاية الصهيونية يجد أنها تستند إلى تبريرين : واحد منهما مغال في المثالية (حق اليهود الأزلي في العودة ورغبتهم في ذلك) والآخر مغالٍ في العملية (سياسة الأمر الواقع) ، وكلاهما يتجاهل الوجود التاريخي لفلسطين وشعبها . وطريقة الطرح الصهيونية – البرجماتية تفتح الباب على مصراعيه للعنف ، فإذا كان برنامجك السياسي هو أهواؤك ، وإذا كان الأمر الواقع هو المحك ، إذن فالبقاء للأصلح – الأصلح الذي يطمع في كل شيء ويفتح نيرانه على كل من يجرؤ على الوقوف أمامه (من منظور أخلاقي هي شريعة الغاب ، ومن منظور فلسفي هي داروينية نيتشوية) .

الفرق بين البرجماتية الأمريكية والبرجماتية الصهيونية

يظل هناك فارق جوهري بين برجماتية جيمس الأمريكية والبرجماتية الصهيونية . فالبرجماتية الأمريكية هي برجماتية غير مبرمجة وغير مثقلة بأي أساطير ، ولذا فهي برجماتية متسقة مع نفسها ، تقف ضد التاريخ ولا تاريخ لها . أما البرجماتية الصهيونية فهي برجماتية مبرمجة مثقلة بالأساطير والتواريخ المقدسة .
فحينما ينظر البرجماتي الامريكي ذو الوجه الأحمر والشعر الذهبي والعيون الخضراء الخالية من الخير والشر والتاريخ إلى الدولة الصهيونية فإنه سيرى خفيرا يحرس المصالح الإمبريالية مفيدا للغاية ما دام يؤدي غرضه وما دام أمرا واقعا غير مهدد ، ولن تغشى الرؤية أساطير تلمودية عن الوعد الإلهي وأرض الميعاد . أما الصهيوني فإنه يحاول أن يتعامل مع الأمر الواقع ولكن أيضا يحاول خلق "حقائق جديدة" (إن أردنا استخدام عبارة ديان الطريفة) صادرة لا عن قراءة للواقع وإنما عن قراءة لكتاب أسطوري . ومن ثم نجد أن حدود البرجماتية الأمريكية أكثر اتساعا وتحددا في ذات الوقت من حدود البرجماتية الصهيونية ، فالأولى يحكمها قانون واقعي ، هو قانون ضيق غبي ، ولكنه قانون مع هذا ، أما البرجماتية الصهيونية فهي مزيج فريد شاذ بين العقليتين العملية والغيبية التلمودية .
ولعل هذا يعطينا مؤشرا على نوعية الصراع مع العدو الصهيوني ، فالأمريكان على سبيل المثال ذهبوا إلى فيتنام لا لأسباب أسطورية وإنما لأسباب إمبريالية واضحة للجميع ، ولم يكونوا يتحدثون عن واجبهم في إدخال الحضارة في فيتنام أو حقهم الإلهي هناك ، أما في إطار البرجماتية المغلقة أو المبرمجة أو التلمودية فالعنف البرجماتي وسياسة فرض الحقائق تستند إلى حقوق مقدسة مسبقة لا يمكن حتى النقاش فيها ، ولذا فعلى الرغم من الصعوبات التي يواجهها العدو الإسرائيلي وعلى الرغم من الخسائر التي قد نلحقها به فإنه يتسلح خلف سياج أساطيره التلمودية ، وهي تمده بنوع من القوة المؤقتة النابعة من الانفصال عن الواقع .

الباب الثاني : عالم السلع الفردوسي

أفرز المجتمع الرأسمالي عديدا من الفلسفات من بينها الفلسفة البرجماتية ، ولكنّ هذه الفلسفة قد كُتِبَ لها الشيوع وذيوع الصيت دون غيرها لأنها أثبتت أنها خير وسيلة تحافظ بها الرأسمالية الأمريكية على اتزان المجتمع وثباته وعلى نقائه من كل التحديات الإنسانية التي قد تخل بهذا الاتزان ، ففي مقدور الإنسان البرجماتي محدود الرؤية أن يستهلك دون تساؤل ، وأن يغير السلع التي يستهلكها وأن يقلل ويزيد من كميتها دون احتجاج ، وهو لا يستفسر أبدا عما إذا كان هذا الاستهلاك سيؤدي إلى سعادته الفردية أم لا ، فالسعادة الإنسانية هذه الرؤية المركبة التي تستند إلى رؤية متكاملة للطبيعة البشرية ليست الهدف ، إنما الهدف هو النجاح في التعامل مع الواقع الذي تخلقه وتحدده وتغلفه الاحتكارات ، ثم تبيعه للمواطن الأمريكي عن طريق الإذاعة والتليفزيون اللذين لا يرحمان ، فهما لا يكلان ولا يتعبان ، وهما موجودان في كل مكان .
ومن اليسير علينا أن نضرب المثال تلو المثال على الهستيرية الاستهلاكية المصاب بها المواطن الأمريكي والمعادية للعقل وللسعادة الإنسانية (التي تختلف عن الملذات المادية الاستهلاكية التي يشجعها المجتمع الأمريكي) ، فصناعة السيارات على سبيل المثال تعد من أهم الصناعات على الإطلاق في الولايات المتحدة فهي صلب النظام الاقتصادي الأمريكي ، ولذلك فمن مصلحتها أن تمتلك كل أسرة أمريكية سيارة ثم سيارتين وإن أمكن ثلاثا ، على أن تستبدلها كل عام أو عامين على الأكثر ، لذلك كان لا بد وأن يختفي نظام المواصلات العامة ، ويقال إنه في استطاعة الاحتكارات الأمريكية أن تصنع سيارة لا تُستَهلك إلا بعد عشرات السنين ، ولكنّ هذه السيارة لا تُنتَج لأنها قد تصل بالسوق الأمريكي إلى درجة التشبع ، وهي نقطة تتوقف عندها الدائرة البرجماتية ، لأن المستهلك لو تشبع بالسلع وشبع منها فإنه قد يفيق وقد يبدأ في التساؤل عن السعادة والحياة والروح ، وهذا ما لا يمكن للرأسمالية الأمريكية تحمله .
وحتى تضمن الاحتكارات الأمريكية أن يظل المواطن الأمريكي غارقا في السلع والمادة وفي حالة غيبوبة إنسانية كاملة فإنها تطلق عليه سيلا من الإعلانات التليفزيونية الرائعة ، فإن انتهيت من طوفان السيارات اكتسحك طوفان السلع الأخرى : معجون أسنان ، صابون للبلاط ، أنواع جذابة من المكرونة ، العطور ، المياه الغازية ، الملابس الداخلية ، الأحذية ، الشكولاتة .... إلخ ، هذا الركام يمكن أن يزول لو توقف الإنسان الأمريكي ولو للحظة واحدة ليتساءل عن جدوى كل هذا ، ولكنه بالطبع لا يفعل لأنه إنسان برجماتي ناجح يجيد التعامل مع الواقع .
وعالم السلع لا يغزو الإنسان الأمريكي من الخارج وحسب ، بل يغزوه ويقمع إنسانيته من الداخل ، والغزو الداخلي يتمثل في مظاهر عديدة أهمها مصادرة الجنس لحساب الاحتكارات الرأسمالية ، وهنا يتحدث المسيري عن إباحية من نوع جديد تفترض أن الجنس طاقة محايدة يمكن استخدامها في التحكم في هذه الوحدة الاستهلاكية التي كانت الفلسفة القديمة تطلق عليها اصطلاح "إنسان" . واختيار الجنس وسيلة للتحكم في الإنسان يدل على ذكاء وفطنة ، فالجنس نشاط بيولوجي حتمي ولكنه في الوقت ذاته له بعد اجتماعي ، وبتأكيد الجانب البيولوجي على حساب الجانب الاجتماعي (دون إلغائه كلية) يخلق المجتمع الرأسمالي الخلطة السحرية والتوازن المنشود ، فأنت قد تسلك سلوكا اجتماعيا ولكن سلوكك ستحدده اعتبارت بيولوجية بسيطة ومحددة . انظر مثلا إلى كريم الحلاقة ماركة كذا إن استخدمته وقعت كل الفاتنات في شباكك ، أما كريم الشعر هذا فسحره لا يقاوم ، وأنتِ يا سيدتي إذا شربتِ هذا الدواء فستعيشين جاذبية جنسية بعد شربه ، وأنت أيها العجوز الكركوب لِمَ لا ترتدي باروكة أو تصبغ شعرك أو تفرك جلدك أو تقصر بنطلونك أو تطوله ... اختر ما تشاء من السلع وكله في سبيل الحيوية والبعث الجنسي ، ولكنه بعث جنسي لا علاقة له بالحياة أو الحب أو الزواج ، فهو بعث بيولوجي مجرد يدور في فراغ حتمي لا نهائي . ونجد هنا التركيز على الجنس باعتباره نشاطا بيولوجيا محضا وطريقا مختصرا إلى النشوة الفردوسية الطبيعية (نسبة إلى الطبيعة والفطرة) التي لا يعقبها أية علاقات اجتماعية أو التزامات إنسانية من أي نوع (مثل الزواج أو حتى الحب لمدة تزيد على 24 ساعة) .

الباب الثالث : الإنسان بين الأشياء والبراءة الأولى

يعرض المؤلف في هذا الباب تجربتيْ "نجاح" مختلفتين ، الأولى لأديب أمريكي يهودي هو "نورمان بود ورتز" الذي نشر سيرته الذاتية عام 67 ثم ظهرت في طبعة ثانية عام 69 ، والأخرى لمالكولم إكس .
يقول المسيري أن أحلامنا تعكس ما في داخلنا وتجسد هويتنا . وأن الحلم بالفردوس ذروة كل الأحلام ، وهو أيضا لحظة الكشف الكامل ، فالفردوس هو نقطة "النجاح" التي يتحقق فيها كل شيء وننجز فيها ذواتنا الحقيقية كما نتخيلها متحررة من كل ضغوط اجتماعية وقهر تاريخي . فإن كان حلمك بالفردوس هو ثلاجة ومرسيدس تملكهما الآن وهنا ، فهذه هي ذاتك في أقصى اتساع لها . أما إذا كنت تحلم بمجتمع يمرح فيه بشر ناضجون أسوياء يحتفظون بشيء من البراءة الأولى وقادرون على الحلم دائما وأبدا ، فهذه هي أيضا ذاتك في لحظة الكشف .
وتفكيرنا عن النجاح مرتبط بتصورنا لأنفسنا ولدورنا في المجتمع وتوقعاتنا من هذا المجتمع ، أوليس النجاح هو توهمنا أو إيماننا بأن بعض أهدافنا أو مثالياتنا – إن شئت – قد تحقق ، وهذه الأهداف والمثاليات هي التي تحكم سلوكنا وهي التي تحدد مدى تقبلنا أو رفضنا لواقع ما ؟ فنحن قد نرى أن غاية الحياة هي أن نفعل الخير ونتحاشى الشر كما يقول سقراط ، أو نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر ، أو أن نربي أطفالنا ، أو نصطاد حسناء باهرة الجمال ، أو ندمر أو نعمر "ومن كانت هجرته لله ورسوله فهجرته لله ورسوله ، ومن كانت هجرته لتجارة يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه " . إن تصورنا عن النجاح كما يقول المسيري هو أساس تصورنا لأشياء كثيرة .
حج مالكوم إلى مكة المكرمة حيث مارس تجربة روحية كان لها أعمق الأثر عليه ، ورحل بود ورتز من بروكلين (الحي اليهودي) إلى مانهاتن (الحي المسيحي ، بلاد الطبقة المتوسطة العالية) ثم إلى جزيرة الفردوس وهي جزيرة يمتلكها مليونير اسمه "هنتجتون هارتفورد" ، حيث تلقى بود ورتز دعوة من هذا المليونير لحضور مؤتمر فناني شرق أوروبا الذي عُقِدَ على هذه الجزيرة التي أنفق صاحبها دون حساب حتى تصبح أجمل مكان للاصطياف وأكثرها ترفا في كل منطقة البحر الكاريبي .
تجربة بود ورتز

النجاح بالنسبة لـ بود ورتز يقاس بمقاييس مادية ، فهو يعني الحصول على المال الوافر والمكانة الاجتماعية اللائقة ، أن تكون ثريا ، أن تكون مشهورا ، أن تتمكن من تسلق الهرم نحو النجومية واللمعان . يقول عنه المسيري : "وولعه بالنجاح والشهرة يصل إلى أبعاد لا يمكن تخيلها ، فبينما هو في الجيش يكتب مقالا لمجلة كومنتاري (التي تشرف عليها اللجنة اليهودية الأمريكية) ، وحينما يصبح المقال موضوعا حادًّا للنقاش يثير الأمر الغبطة في قلبه ، لا لأن المقال جيد (يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر) ولا لأنه مقال قد حقق عن طريقه ربحا (تجارة يصيبها أو امرأة ينكحها) ، وإنما لأن المقال جعل منه موضوعا للحديث ، وهذا هو المهم ، أن يظل السلعة الرابحة والشيء المطلوب . لم يعد بود ورتز مرتديا قناع البلاستيك للدعاية ، بل أصبح هو نفسه الرجل \ الإعلان \ البلاستيك – الإنسان السلعة ولا حول ولا قوة إلا بالله . "
وينهي المؤلف هذا الفصل بقوله :
"ولكن السؤال في نهاية الأمر ما هو النجاح الذي عنه تبحث ، ما هي الآلام والآمال ، هجرة لله ورسوله ، أم هي هجرة تجارية للحصول على الأشياء ومزيد من الأشياء ؟ هذا هو السؤال الوحيد الذي يمكن أن يسأله البشر كبشر بالنسبة لقضية النجاح .
فإن لم يسألوه كانوا كالحيوان الأعجم الذي لا روح له ، أو مثل بود ورتز الذي تعبد في محراب ربة النجاح المادي والأشياء والنقود والشهرة ، أو كالجبل الأصم الذي لا يستطيع أن يحمل الرسالة التي عرضها الله عليه ، ويقف وسط الطبيعة مساويا لها ليس فيه ما يميزه عنها ."
وهناك نقطة أخرى أثارها المسيري أثناء حديثه عن تجربة بود ورتز تتعلق بالجيتو اليهودي العقلي الذي ظل بود ورتز يعيش فيه ، ويعلق المسيري على ذلك قائلا : "إن المثقف الذي يعمل داخل الحدود الاجتماعية المعترف بها يشبه اليهودي الذي يخرج من الجيتو ويندمج مع الأغيار ، مثل هذا المثقف هو ولا شك المقف الحقيقي ، أما من يقف خارج التاريخ مشمئزا من الآخرين (أو الأغيار) فهو نموذج بشري مستمد من جيتو شرق أوروبا ."

تجربة مالكوم

"الله يبعث لك بإشارات أنه معك حين تكون معه" مالكوم إكس

رفض مالكوم أخلاقيات المجتمع الرأسمالي العرقي في الولايات المتحدة ، المجتمع العرقي المادي المبني على التنافس الذي يلتهم فيه الإنسان أخاه الإنسان ، وإذا كانت العلاقة بين البشر هي علاقة بين شيء وأشياء أخرى وليست بين الإنسان وأخيه الإنسان فإن التعامل الميكانيكي يحل محل المسؤولية الاجتماعية والحب ، ويبدأ كل فرد في محاولة افتراس الآخرين ، فكتاب الرأسمالية المقدس يقول افعل بالآخرين قبل أن يفعلوا هم بك (أي استغلهم قبل أن يستغلوك) ، كما تحل الشهوة محل الحب ، ويكون التنافس هو الدافع الوحيد لسلوك الإنسان ، في ظل كل ذلك رفض مالكوم أن يبيع روحه لشيطان العرق والمادية ، رفض الوقوع في شراك المادة .
كان الإسلام ، هذا النسق الأخلاقي المتكامل ، يشكل بالنسبة لمالكوم كلا من حلم البراءة والنقد الشامل للحضارة الأمريكية ، وقد زوده بإطار مثالي حرره من افتراضات وأخلاقيات مجتمعه العرقية ، ففي الإسلام لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى ، وفي الإسلام يد الله مع الجماعة ، وحثٌ على التجمع والائتلاف بدلا من الصراع والتنافس .
وجد مالكوم في العالم العربي الإسلامي تحقيقا جزئيا لحلمه بالبراءة وبعالم خال من التفرقة العنصرية ، وذلك على الرغم من أنه وطن له جوانبه المظلمة ، شأنه في هذا شأن أي بقعة أخرى في العالم ، ولكن مالكوم كان يتعامل مع هذا الوطن من منظوره هو ، كأمريكي أسود يعاني ويلات التفرقة العنصرية . ومن هذا المنظور اكتشف مالكوم أن هذا الوطن لا يقف في طريق نمو الإمكانيات الإنسانية لدى الإنسان الأسود .
ورغم أن قلب مالكوم فاض بحب مكة المكرمة إلا أنه رفض أن يهبط إلى أي شكل من أشكال الهروب أو الرغبة في "العودة الصوفية" ليقيم بجوار قبر الرسول أو يستوطن في العالم الإسلامي أو أي مكان يتصوره على أنه الفردوس الأرضي . حمل مالكوم حلمه بالبراءة الأولى وعاد إلى قومه ليحارب معهم من أجل حقوقهم ، فرفض الأفكار الانفصالية التي كانت تدعو لها بعض الجماعات القومية السوداء وتبني مفهوما أكثر تركيبا عن العودة إلى أفريقيا ، فلقد أضحت "العودة" بالنسبة له "عودة" فلسفية وحضارية وحسب ، وليست عودة جسدية فردوسية . وكانت العودة الفعلية لأمريكا على قدر مساو من الأهمية كالعودة النفسية إلى أفريقيا . وتكشف هذه "العودة" الثنائية عن التزام مالكوم بمجتمعه وبحدوده التاريخية (وليس تحطيم كل الحدود التاريخية والإنسانية كي يحقق فردوسا أرضيا خالصا) وعن رغبته في تخليص هذا المجتمع وتوسيع حدوده التاريخية عن طريق حلمه بالبراءة ومثله العليا الجديدة  ، كما تكشف عن إصراره على هوية مركبة ثنائية ، كأفريقي وكأمريكي .
 قرر مالكوم أن يبني تنظيمه الخاص الذي يقوم بتطبيق ما تنادي به جماعة المسلمين السود دون ممارسة . لقد كان مالكوم متحمسا لإسلامه بدرجة جعلته أكثر من مجرد كاهن ، فهو كان يحث على التحرك الاجتماعي ، كرسول الله . ولم يكن نبي الإسلام مجرد رسول مبعوث من قبل الله ، ولكنه كان أيضا قائدا سياسيا لـ"شبه الجزيرة العربية" ، وهو لم يقدم رؤية جديدة للحياة وحسب ، ولكنه حارب من أجل تحرير العبيد وتحقيق هذه الرؤية في التاريخ . وبالاختصار نجد أن الفصل بين الفكر الديني والأخلاقي من جهة وبين التطبيق الاجتماعي والسياسي من جهة أخرى ليس إحدى سمات الإسلام .
فإذا كان الحلم بالبراءة والمثل الأعلى في الأدب والفلسفات القديمة هو نسق فكري خال من أي صراعات أو توترات لأنه حلم لا تاريخي وأسطوري ومجرد إمكانية نظرية ، فإن حلم البراءة الثوري في العصر الحديث يضرب بجذوره في الواقع ويكتسب قوته وفعاليته من أنه ينبع من الواقع ويعود إليه ، وأنه حلم في نهاية الأمر قابل للتحقيق بشكل جزئي وحسب داخل التاريخ ، أي أن حلم البراءة الثوري لا يظل مجرد صورة ذهنية رائعة ، كما أنه ليس بواقع فردوسي قد تحقق الآن وهنا ، وإنما هو رؤية للحياة الفاضلة يتعامل الثوري من خلالها مع الواقع التاريخي ويحاول أن يحققها داخل التاريخ ذاته ، ولأنه يحققها داخل التاريخ فهي لن تحتفظ بصفائها وبراءتها . وحين عاد مالكوم إلى أمريكا ليحاول أن يحقق رؤيته الجديدة عن طريق الفعل الاجتماعي أظهر أنه ينتمي إلى تقليد الثورييين التاريخيين الذين يحلمون ولكنهم لا يهيمون في الفضاء وعالم الأساطير ولا يحاولون تشييد أي فردوس أرضي ، وإنما يحاولون تغيير الواقع لا عن طريق التسامي عليه أو الانفصال عنه أو تدميره كلية ، ولكن عن طريق إعادة تشكيله وفقا لرؤيتهم عن "الحياة الفاضلة" وبما يتفق مع إمكانيات هذا الواقع الحقيقية .
وينهي المسيري حديثه عن تجربة مالكوم بقوله : "إن تلك السيرة الذاتية هي حقا ترتيلة تمجيد لروح الإنسان ، القادرة على التحمل ، بل على الانتصار" .


الباب الرابع : المرأة الأمريكية بين الفردوس والتاريخ

تحرير المرأة في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين الذي تم في الإطار البرجوازي الحضاري كان يعني حق المرأة في أن تعمل خارج المنزل إلى جوار عملها داخله ، ولذلك فالمرأة العاملة في الواقع تعمل ضعف الرجل .
إن النظام الرأسمالي مبني على أساس أن المرأة تعمل في المنزل دون مقابل مادي أو معنوي .
نظام الاقتصاد الرأسمالي – شأنه شأن أي نظام اقتصادي آخر – ليس مجرد عملية إنتاجية ميكانيكية تتم خارج الإنسان وبمعزل عنه وإنما هو وضع نفسي وموقف عاطفي وتصور محدد للنفس البشرية ، وفي المجتمع الرأسمالي يصبح الإنسان مجرد وحدة إنتاجية (واستهلاكية في الوقت ذاته) يعيش لنفسه وبنفسه منفصلا عن الآخرين .
وحيث أن الإنتاج مرتبط بنموذج إنساني محدد نجد أن نمط الإنتاج الرأسمالي مسؤول عن كثير من السمات التي تسم الإنسان الأمريكي . فالأسرة النووية على سبيل المثال لم تنشأ مصادفة وإنما هي ترجمة اجتماعية لمحاولة تنشئة الإنسان الرأسمالي الفرد المنفصل عن الآخرين ، والرأسمالية أيضا هي المسؤولة عن ظهور الإنسان الاستهلاكي الذي يصاب بالسعار الاستهلاكي .
ولزيادة هذا السعار الاستهلاكي تطلق الرأسمالية قوى الإنسان الجنسية من عقالها ، وهذا الإنسان الاستهلاكي هو الترجمة العملية لمبدأ اللذة الكمي الذي يعرف السعادة على أنها إرضاء أكبر قدر ممكن من الرغبات لأكبر عدد ممكن من الناس ، إن هذا الإنسان يعيش داخل نفسه منفصلا عن الآخرين وعن تراثه ، ولذلك فهو يعيش في الجسد يبحث عن المتعة المباشرة التي لا علاقة لها بالخير وبالشر . ولأنه يدور حول نفسه تصبح الأسرة أمرا غير مهم ، فاهتمامنا بالأسرة ينبع من إيماننا بأن الوجود الإنساني وجود جماعي وأن الأسرة هي المكان الذي نتوارث فيه القيم الجماعية التي كدّ الإنسان عبر تاريخه للوصول إليها .
هذا الموقف من الجنس أثر ولا شك على بناء الأسرة وزاد من تحللها ويهددها بالاختفاء تماما ، مما أضعف دور المرأة التقليدي كزوجة وأم ، الأمر الذي يجعلها تبحث عن دور آخر لها .
وإذا كان الموقف الاستهلاكي من الجنس قد أضعف من دور المرأة التقليدي فإنه يلقي على كاهلها عبئا من نوع جديد ، فأينما تفتح التليفزيون الأمريكي تجد امرأة نصف عارية تبيع لك شيئا ما .  وهذا يصعد من توقعات الرجل الأمريكي بالنسبة للجنس والمتعة التي يتوقعها فيتوقع من زوجته مثلا أن تكون مثل مارلين مونرو مما يسبب الكثير من عدم الاطمئنان والإحباط للزوجة . وتساهم الشركات المنتجة لأدوات ومستحضرات التجميل في تصعيد توقعات الذكور من الإناث فتضطر الإناث للاستهلاك . ولعل هذا الجانب من الحضارة الأمريكية هو الذي يفسر ثورة السيدات العارمة على أدوات التجميل والرموش الصناعية والمساحيق الكيماوية والعطور اللانهائية ، لأنه ثمة إحساس بالسخط على هذه الصناعات التي تعمل جاهدة على إقناع المرأة بالتحول إلى شيء جميل "يثير الرجل جنسيا" .
لا بد وأن يتيح المجتمع الإنساني الفرصة للمرأة الموهوبة أن تخرج لتحقيق كل إمكانياتها ، كما أنه لا بد وأن نعيد تقويم موقفنا من تصورنا للعمل ، فيجب على الرجل والدولة والمجتمع أن يعترفوا بأن العمل في المنزل هو عمل منتِج ، وأنه إن لم تقم به الزوجة سيقوم به شخص آخر في ساعات عمل محددة ونظير أجر محدد . هذا لا يعني أنه على الزوج أو الدولة أن تقدر للزوجة أجرا نظير عملها في المنزل ، لأن تحديد مثل هذا الأجر صعب وغير مستحب (كيف ستحدد فعلا أجر زوجة المدير وزوجة العامل ؟ ) وإنما يعني تغييرا في موقفنا النفسي من المرأة ووظيفتها ، وبالتالي حينما يعود الرجل إلى منزله لا يسخط باعتبار أنه كان "يعمل" بينما كانت زوجته في المنزل ، وإنما سيخفض من صوته قليلا لأنه بينما كان هو يعمل كانت زوجته هي الأخرى تشقى وتكد : ترضع الأطفال وتغسل الصحون وتتسلق السلالم وتشتري الخضار وتطبخه وتحكي القصص للأطفال وتعطي من ذاتها وكيانها له ولأولادِهما .
ولعل فكرة إعادة تحديد تعريفنا للعمل قد يهديء من بال كثير من السيدات اللائي يجدن أنفسهن مضطرات للخروج من المنزل للعمل في وظيفة ما كي يكسبن احترام أزواجهن ، على الرغم من أن هذه الوظيفة قد لا تكون خلّاقة أو ممتعة ، كأن تعمل المرأة في الأرشيف أو في مصنع أو أي عمل روتيني آخر لا يعادل بأي حال عملها كأم وربة منزل وزوجة ، ولكنها تجد نفسها مضطرة لذلك لأن عملها في المنزل لا يُحسَب عملًا  .

الموقف من الزواج

هناك رفض جذري لفكرة الزواج من جانب مفكري حركة تحرير المرأة في الولايات المتحدة ، ورفض الزواج كما يقول المسيري هو في نهاية الأمر رفض لإنجاب الأطفال ورفض للدخول في أي علاقة إنسانية ذات عمق والاكتفاء باللحظات العاطفية العابرة ، أو كما سمته إحدى الزعيمات "غراميات أو زيجات قصيرة" ، وفي هذا فشل لفهم طبيعة الزواج ، هذه التجربة المستمرة وليست العابرة ذات العمق المعين . وربما هذا ما عنته إحداهن عندما صرّحت بأنها لا تؤمن بالحب ، فنحن لا نؤمن بالحب إلا إذا آمنا بالإنسان وبإمكانية الثقة في الآخرين والاحتماء بهم والاعتماد عليهم . أما إذا كنا نعيش أفرادا منفصلين ، فنحن نعيش في حالة قلق من الأغيار ، نفترسهم أو يفترسوننا ، وإذا ما دخلنا علاقة حب فستكون علاقة افتراس ونهم أيضا ، تعطينا أكبر قدر ممكن من اللذة دون ألم .
يضيف المسيري : حتى الآن لم نكتشف بديلا حقيقيا للزواج والأسرة رغم قصورهما باعتبارهما مؤسسات اجتماعية ، وإن كنت أعتقد أن الإحساس بـ"قصور" الزواج وأنه قيد هو إحساس ناجم عن انتشار الحساسية الفردية التي تزيد من حساسية الإنسان بنفسه بشكل مرضي وتجعله يبحث عن المتعة في كل شيء وتزيد من توقعاته بشكل فج يسبب له الإحباط الدائم . ولذلك فإحساسنا بقصور الزواج والأسرة ناجم عن وجودنا في فترة تاريخية معينة تسيطر عليها فلسفة لا تؤمن بالإنسان ولا بالجماعة .

الشذوذ الجنسي

البحث عن اللذة الجنسية الخالصة الفردوسية (وهي فردوسية لأنها لا تبحث عن الاستمرار وترفض الارتباط الدائم كما تحاول تحاشي أي نتائج اجتماعية مثل الزواج أو الأطفال) هو الذي يفسر انتشار الشذوذ الجنسي في المجتمعات الرأسمالية الغربية ، وهذه ظاهرة لا يمكن تفسيرها إلا على أساس أيديولوجي ، فكل مجتمع فيه شواذه ، ولكن الشذوذ في المجتمعات الغربية قد زاد إلى درجة أصبح معها يشكل ظاهرة . وأعتقد أن الشذوذ هو النتيجة المنطقية والترجمة الوحيدة الأمينة لمبدأ اللذة النفعي . فالإنسان الشاذ يمكنه أن ينشيء علاقة مع شخص آخر من جنسه فيتغلب على اغترابه بشكل مؤقت ثم يعود مرة أخرى لحياته الاستهلاكية البسيطة . وهو يتغلب على اغترابه دون أن يدخل في علاقات ذات آثار اجتماعية تضطره للدخول في علاقة حقيقية مع الآخرين ومع الواقع ، إن العلاقة مع شخص آخر من نفس الجنس هي أقل العلاقات الإنسانية جدلية .


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق