الخميس، 11 ديسمبر 2014

هل صحّت أحلامُ المصلحين؟

شهدت مصر خلال القرن التاسع عشر  ظهور عدد من الزعماء السياسيين والمصلحين الدينيين والاجتماعيين الذين عملوا على مواجهة حالة التخلف السائدة من أجل تحقيق الإصلاح والنهوض ، ورغم الجهود الكبيرة التي بذلها هؤلاء إلا أن الإصلاح ظل مطلبا غير متحقق بالصورة التي أرادوها ودعوا إليها، بل إنه يمكن القول إن الأوضاع بوجه عام اتجهت نحو الأسوء. ربما هذا الذي دفع مجلة الهلال في عددها الصادر في نوفمبر 1933 إلى طرح سؤال "هل صحت أحلام المصلحين؟" وذلك من خلال استفتاء طائفة من المفكرين وأصحاب الرأي حول "كبار المصلحين والزعماء الذين ظهروا في مصر وكان لهم أثر بارز في حياتها الجديدة من النواحي السياسية أو الاجتماعية أو الدينية". وتمثلت أسئلة الاستفتاء التي توجهت بها إليهم في : ماذا كان يحلم به المصلحون والزعماء في مصر؟ وماذا تحقق من أحلامهم؟ وماذا يُنتـَظـَر تحقيقه منها في المستقبل؟ وقد نُشِرَت الإجابات على شكل مقالات تناول كلٌ منها واحدا (أو اثنين) من المصلحين والزعماء. فقد كتب عبد الرحمن الرافعي عن محمد علي والخديو إسماعيل، ود. يحيى أحمد الدرديري عن جمال الدين الأفغاني، ومحمد رشيد رضا عن الشيخ محمد عبده، وحافظ رمضان عن مصطفى كامل، وإبراهيم الهلباوي عن قاسم أمين، وأحمد فريد رفاعي عن سعد زغلول. وسوف نركز هنا على المقالين الثاني والثالث عن جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده على الترتيب.

في مقاله عن الأفغاني ينقل الدرديري ما قاله عنه الأمير شكيب أرسلان إنه "كان يُعظِّم نفسه عن الشهوات ولا يرى من اللذات إلا اللذة العقلية العالية... وكان ينظر إلى المال نظره إلى التراب فلا يدخره ولا يتناول منه إلا ما هو ضروري للحياة". وينقل كذلك ما وصفه به أعظم تلاميذه (الشيخ محمد عبده) : "وهو كريم يبذل ما بيده، قويّ الاعتماد على الله، لا يبالي ما تأتي به صروف الدهر، عظيم الأمانة، سهل لمن لاينه، صعب على من خاشنه، طـَموح إلى مقصده السياسي... وهو قليل الحرص على الدنيا بعيد عن الغرور بزخارفها، مولع بعظائم الأمور عزوف عن صغارها، شجاع مقدام لا يهاب الموت... إلا أنه حديد المزاج، وكثيرا ما هدمت الحدة ما رفعته الفطنة".

وكان مطمح الأفغاني الأسمى -كما يشير الدرديري- الجامعة الإسلامية، ولكنّه - أي الأفغاني - تحدث عن إخفاق فكرته تلك في حياته ويأسه من تحقيقها بعد وفاته فقال في سنة 1892 قبل وفاته بخمس سنوات: "إن المسلمين قد سقطت هممهم ونامت عزائمهم وماتت خواطرهم وقام شيء واحد فيهم هو شهواتهم".

إلا أن جمال الدين - كما يعلق الدرديري - إذا كان قد أخفق في تحقيق مثله العالي فقد حقق لأمم الشرق مُثُلا عليا عديدة. وما أخفق في واقع الأمر إلا لأنّ ما ابتغاه صعب المنال عسير المرتقى في وقت طمع فيه الغرب في الشرق وألّب عليه الإحن والأحقاد ودس ساستُه السم في نواحي العالم العربي الإسلامي. وهو بالذات كان يطارده الاستعمار أينما حل وسار. على أن هذا المصلح الكبير قد نجح في حياته ونجح بعد وفاته وكان نجاحه متعددا كثير النواحي شهي الثمرات. ففي ناحية الفكر الحر نجده بذر بذورا صالحة أينعت بسرعة خارقة للعادة، فما أن بشّر بتعاليمه في مصر حتى أقبل يرتشف من منهله العذب صفوة من طلاب الأزهر في رأسهم محمد عبده وسعد زغلول وإبراهيم الهلباوي، ومن مفكري الإسكندرية عبد الله النديم وأديب إسحق وسليم نقاش، وغيرهم ممن استفادوا من علمه وفكره، وهؤلاء هم تلاميذه في مصر، ولا بدّ أنه قد تتلمذ عليه جهابذة في سائر البلاد الشرقية التي هبط إليها حاملا مشعل الحرية والفكر والجرأة على الاستبداد والنضال ضد التدخل الأجنبي والاستعمار.

ويرى الدرديري أن تأثير الأفغاني في رفع المستوى الخُلُقي أجلّ آثاره، فقد كان قدوة طيبة، والقدوة أفعل أثرا من الفكر ومن العلم ومن فصاحة اللسان ومن الدعاية النشطة الواسعة النطاق. وكان جريئا في إبداء رأيه لا يعبأ بما تجره الصراحة في الحق من عواقب وخيمة. ولقد طورد طول حياته فما اشتكى ولا تململ ولا فترت عزيمته. ولقد كان ثائرا على أخلاق الضعف من ملق ودس وحسد واستخذاء ونفعية. وإنّ نظرة واحدة إلى سيرته لتبعث في النفس سموا وترفع المرء إلى ذروة الأخلاق الفاضلة. يأتي بعد ذلك التأثير الفكري والأدبي، ويعتبر الدرديري تلاميذ الأفغاني الدليل المحسوس على أن هذا التأثير لا يقل عمقا عن تأثيره الخُلُقي.

يبدأ محمد رشيد رضا مقاله عن الشيخ محمد عبده بالإشارة إلى أنه نشر في الجزء الأول من "تاريخ الأستاذ الإمام" ما كتبه الأخير بيده في بيان ما دعا إليه من الإصلاح، وهو ينحصر في ثلاث دعوات جامعة لعدة مقاصد ما عدا الوسائل وهي : الإصلاح العقلي الذي يجمع بين هداية الدين ومنافع العلم وذلك بتحرير الفكر من قيد التقليد وفهم الدين على طريقة سلف الأمة قبل ظهور الخلاف والرجوع في كسب معارفه إلى ينابيعه الأولى. وقد بين ذلك بالقلم في "رسالة التوحيد"وهي مجملة موجزة، وأما تفصيله له بالإطناب التام فقد كان فيما قرره في دروس تفسير القرآن الكريم في الأزهر الشريف. وجاهد لإصلاح التعليم في الأزهر، وهذا الإصلاح لم يتحقق كما كان يريد ولكن لا يقال إنه قد خاب سعيه له بل وجد من وسائله التي رسمها له : النظام والتخصص والعلوم العصرية وتحضير الدروس في الأقسام العالية بدلا من المناقشات اللفظية في عبارات المتون والشروح والحواشي، ووجد فيه نابتة من تلاميذه وتلاميذهم ومتبعي خطته في استقلال الفكر والتفصي من قيود التقليد للمؤلفين الميتين، هم وسط بين حزب الجمود والخرافات القديم وحزب التفرنج الذي حدث بعده.

أما الدعوة الثانية فقد كانت لإصلاح اللغة العربية إذ كان يرى أن ارتقاء الأمة متوقف على ارتقاء لغتها. وكان له في إصلاح اللغة العربية مراحل : أولها طريقته في التعليم والتدريس في مدرسة "دار العلوم" إذ كان من أساتذتها الأولين منذ إنشائها. ومن أنفع محاضراته فيها ما كان يلخص به مقدمة ابن خلدون وينتقدها. وثانيها عمله في إدارة المطبوعات ورياسة تحرير جريدة الحكومة الرسمية "الوقائع المصرية" حيث أنشأ في الجريدة قسما أدبيا كان ينتقد فيه كل ما يراه منتقدا من أعمال الحكومة ولغة دواوينها ومصالحها. وكان من تأثير انتقاده للغة الدواوين أنه ألجأ جميع الكتاب فيها إلى دراسة اللغة في مدرسة ليلية أنشئت لذلك. وكان من أشهر تلاميذه في هذه المرحلة سعد زغلول. وثالث المراحل الأزهر، وكان عمله في إصلاح اللغة فيه نوعين : أحدهما إلقاء دروسه كلها باللغة الفصحى الممتازة برشاقة التعبير وبلاغة التأثير فكان فيه الأسوة العملية العليا، وثانيهما قراءته فيه لأعلى كتب البلاغة وأنفعها: أسرار البلاغة ودلائل الإعجاز لواضع فنها الأول الإمام عبد القاهر الجرجاني. وتلاميذه في هذه المرحلة كثيرون سواء من جهابذة المدرسين في دار العلوم، أو من نوابغ الأزهريين الخلص ومنهم الشيخ مصطفى عبد الرازق والشيخ عبد العزيز البشري والشيخ عبد الرحمن البرقوقي والمرحوم مصطفى لطفي المنفلوطي. وكان الأستاذ الإمام  يرأس في كل سنة لجنة امتحان طلاب دار العلوم ويرشد الطلبة في أثناء الامتحان إلى ما ينفعهم في اكتساب ملكة البيان.

أما الدعوة الثالثة فكانت -كما كتب رشيد رضا- إلى الإصلاح السياسي المصري فالإسلامي، حيث كان ناصرا ومؤيدا لداعيته الأول وواضع أسسه وهو أستاذه موقظ الشرق وحكيم الإسلام جمال الدين الأفغاني. وقد أسس معه في مصر الحزب الوطني الأول في عهد إسماعيل. ثم كان له معه سعي آخر للإصلاح السياسي الإسلامي الراقي العام وتأسيسهما جمعية العروة الوثقى السياسية التي أصدرا باسمها جريدة "العروة الوثقى" في باريس. ثم تصريحه بأنه ترك العمل السياسي لأنه ثمرة لتربية الأمة تربية خاصة فالواجب الأول العناية بهذه التربية. وكان كل رجائه في الإصلاح الديني منوطا بالمنار وتفسير المنـار


نُشِرَ هذا الموضوع في عدد ديسمبر 2014 من مجلة الدوحة تحت عنوان "هل تحقّقت أحلامُ المصلحين؟" يمكن الاطلاع عليه عبر هذا الرابط
http://www.aldohamagazine.com/article.aspx?n=422FBE98-96A9-4A0C-B835-86DC5F43828C&d=20141201#.VIjDuNKUeQl