الثلاثاء، 31 يناير 2012

التفكير فريضة إسلامية


إعمال العقل يهدى وإهماله يضل

تعد قضية الإيمان بالله أهم وأخطر قضية فى حياة الإنسان فهى القضية التى يتحدد على أساسها مصيره فى الآخرة إن كان من أصحاب الجنة أم من أصحاب السعير , وقد أمرنا الله بأن نعمل عقولنا فى هذه القضية , انظر إلى قوله تعالى " إن فى خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التى تجرى فى البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون " البقرة 164 , وهذا يعنى أن عقل الإنسان إذا أعمله واستخدمه كفيل بهدايته إلى الطريق الصحيح أما إذا أهمله وألغاه فسيكون مصيره الضلال " أف لكم ولما تعبدون من دون الله أفلا تعقلون " الأنبياء 67 وفى الآخرة ندم شديد " وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا فى أصحاب السعير " الملك 10 , فإذا كان الإنسان مأمورا بإعمال عقله فى أهم وأخطر قضية فى حياته فلا شك أن هذا الأمر بإعمال العقل ينسحب ومن باب أولى على كافة القضايا الأخرى من شئون الدين أو الدنيا .

موانع ثلاثة

"حين يكون العمل بالعقل أمرا من أوامر الخالق يمتنع على المخلوق أن يعطل عقله مرضاة لمخلوق مثله أو خوفا منه " بهذه العبارة يبدأ العقاد ثانى فصول كتابه المعنون " الموانع والأعذار " والذى يحدد فيه ثلاثة موانع كبرى تعطل العقل اعتبرها بمثابة الأصول التى تتشعب منها الموانع المختلفة , فمن سلم منها – كما قال - أوشك أن يسلم من كل مانع يحجر على عقله , وهذه الموانع كما حددها هى :

* عبادة السلف أو ما يسمى بالعرف

وذلك عندما يكون الإنسان أسيرا لعادات وتقاليد مجتمعه يحرص على اتباعها دون أن يسأل أهى صواب أم خطأ , مصرا على التمسك الأعمى بما كان عليه الآباء دون أن يفكر أكان هؤلاء الآباء على حق أم على باطل , أكان ما يفعلونه خيرا يجب الاقتداء به أم شرا يجب نبذه والابتعاد عنه , وقد استنكر القرآن ذلك فى مواضع كثيرة منها " وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أو لو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون " البقرة 170 .

* الاقتداء الأعمى بأصحاب السلطة الدينية

معروف أن الإسلام أسقط الكهانة وأبطل سلطان رجال الدين على الضمائر ونفى عنهم القدرة على التحريم والتحليل والإدانة والغفران , ولكن المشكلة أن بعض الناس ينساقون انسياقا أعمى وراء ما يقوله أولئك الذين يتصدون للحديث فى الدين - سواء كانوا أهلا لذلك أم لم يكونوا – ويحرصون على اتباعهم دون تفكير أو تمحيص لما يقولونه أو لما يدعونهم إليه , وطالما أن "الشيخ قال" فلاشك أن كلامه صحيح واجب الاتباع , وهذا بلا شك غير مقبول فى دين  "يقوم على مخاطبة العقل , ويعلل أحكامه وتشريعاته وأوامره ونواهيه" (1) , لا سيما وأن المتحدثين فى الدين أصبحوا كثيرين جدا فى زماننا , وبعضهم تصدر عنه آراء وفتاوى لا تستسيغها العقول  .

 * الخوف المهين من أصحاب السلطة الدنيوية

فالإسلام لا يقبل من المسلم أن يلغى عقله رهبة من بطش السلطة المستبدة , ويعد هذا المانع – كما أشار العقاد - أهون خطورة من الاثنين السابقين , لماذا ؟ لأن الحكم المستبد – كما قال - يتسلط على الضمير من خارجه ولا يستهويه من باطنه كما هى الحال فى المانعين الآخرين اللذين يجعلان الإنسان ينقاد للضلال إيثارا له ومحبة للمضللين , "فهو مشكلة مكان لا مشكلة عقل أو ضمير ... وكثيرا ما يكون الاستبداد حافزا للضمير إلى المقاومة محرضا للعقل على الرفض والإنكار , وأكبر ما يخشى منه أن يؤدى إلى تشبث العناد لأن هذا التشبث خطر على التفكير كخطر الاستهواء والتسليم" .

ليس تناقضا

ولكن الإسلام يأمرنا بتوقير الآباء والرجوع إلى أهل الذكر وطاعة أولى الأمر , فهل هذا يعد تناقضا ؟ لا .. فبالعقل نستطيع  التمييز بين البر بالآباء والضلال معهم على غير بصيرة , وبالعقل نستطيع التمييز بين من هو أهل لسؤاله والرجوع إليه ومن هو غير ذلك , وبالعقل نستطيع التمييز بين من يستحق الطاعة من أولى الأمر ومن يجب علينا أن نقاومهم بكل ما أوتينا من قوة إذ لا طاعة لمخلوق فى معصية الخالق .

الأربعاء، 11 يناير 2012

صندوق الدنيا

حول كتاب "صندوق الدنيا" لإبراهيم عبد القادر المازنى

استوحى الكاتب اسم كتابه – كما يقول فى مقدمته – من ذلك الصندوق الذى كان وهو طفل يجلس إليه فى شوق وينظر ما فيه من صور فى فرح وسرور , فصار عندما شب عن الطوق يحمل الصندوق على ظهره ويجوب به الدنيا يجمع مناظرها وصور العيش فيها ويقدمها للقراء فى كتاباته فلا يعدمون منها متعة أو سلوى .


 هذا بالنسبة لاسم الكتاب , أما بالنسبة لمحتوياته فهو يضم عشرين مقالا كتب معظمها بأسلوب ساخر عرف به المازنى واشتهر , وسأتحدث فيما يلى بشئ من الاستفاضة عن بعض هذه المقالات وعن رأيى في بعض ما طرحه الكاتب خلالها من أفكار قد أتفق أو أختلف معه بشأنها .


 "الصغار والكبار" و "الطفولة الغريرة" .. لماذا نمارس القهر على أبنائنا ؟


 يتحدث المازنى فى المقال الأول " الصغار والكبار "عن نظرة الصغار إلى الكبار من خلال حوار شيق يدور بينه وبين ابنه الذى يرى أن الكبار ينظرون إلى الصغار على أنهم أغبياء بلداء لا يصيبون أبدا , بينما هم – أى الكبار - العقلاء الحكماء الذين لا يخطئون أبدا , ويقترح الأب على ابنه الساخط على الكبار أن يشاركه فى تأليف كتاب " المختار فى تهذيب الكبار" تقلب فيه المسألة فيمارس الصغار دور الكبار والكبار دور الصغار , أما فى المقال الثانى " الطفولة الغريرة " فيرى المازنى أن وظيفة الآباء والأمهات فى بلادنا تكاد تكون صرف الأبناء عن النظر والتفكير وإلزامهم الجمود ونهيهم عن كل حركة جسمية أو عقلية , فكل شئ يصدر عن الطفل معيب وخطأ ولا شئ فيما يرى الطفل محمود مشكور , ويروى بعض المواقف التى تعرض لها وهو طفل كان يعامل خلالها بنفس هذه الطريقة , ورغم أن المازنى كتب هذا الكلام منذ عشرات السنين لازال بعض الآباء والأمهات يستخدمون نفس هذا الأسلوب القائم على القهر فى تربية أبنائهم مما يؤدى إلى كبت أفكارهم والحد من قدراتهم والحيلولة دون إبراز مواهبهم وتنميتها , فضلا عن ضعف ثقتهم بأنفسهم , وينبغى على الآباء والأمهات لتجنب ذلك أن يمنحوا أبناءهم قدرا أكبر من الحرية للتعبير عما يدور بداخلهم من أفكار أو آراء أو استفسارات دون خوف من اللوم أو العقاب .


 أشق المحادثات .. وتحامل المازنى على المرأة


 يصف المازنى المرأة بأنها لا تكف عن الثرثرة ولا تعطى الرجل الذى تتحدث معه أية فرصة ليعبر فيها عن نفسه أو ليقول رأيه فيما تقول , ورغم أن المرأة لا تكف عن الكلام فإنها فى الوقت ذاته لا تنفك تنكر على الرجل صمته وتستهجنه منه أو تعده دليلا على أن فى نفسه شيئا من ناحيتها .. إلى هنا ويبدو أن المازنى لم يأت بجديد فقد سبقه ولحقه فى اتهام المرأة بالثرثرة كثيرون , ولكنه لم يكتف بذلك بل أضاف أن محادثة النساء أشق من محادثة الصم !! إن محادثة الصم كما يصفها المازنى صياح من جانب وبعثرة للمواضيع من الجانب الآخر, فأنت مطالب عندما تحادث أصم بأن ترفع صوتك بأقصى ما تستطيع وتقترب جدا
من أذن من تحدثه عسى أن يسمع ويعى , كما أنك تضطر لتكرار ما تريد أن تقول مرات ومرات , ورغم كل هذه المعاناة التى يعانيها المرء فى محادثة الصم فإن محادثة النساء فى نظر المازنى أشق !! ياله من ظلم بين لنا كنساء .


 أبو الهول وتمثال مختار


يعقد المازنى مقارنة بين أبى الهول وتمثال مختار حيث يرى أن الأخير على براعته لا شئ إذا قيس بالأول , ودون الدخول فى تفاصيل تلك المقارنة أو عرض مآخذ المازنى على تمثال مختار فإن ما أعجبنى أن المازنى فكر ولم ينسق وراء الرأى السائد عن التمثال – منذ أن رأى النور - والقائم على الإشادة الدائمة به , بل قدم لنا نظرة مغايرة عن النظرة المعتادة ورأيا مختلفا عن الرأى السائد , وإذا كان المازنى ليس ناقدا فنيا – يقول عن نفسه أنه أجهل الناس بالفنون – إلا أن ذلك فى رأيى لايسلبه حقه فى أن يقول رأيه طالما التزم بالموضوعية وابتعد عن الأهواء والمصالح الشخصية ... ليتنا نفعل كما فعل المازنى فى هذا المقال ونفكر دوما فيما يطرح علينا من أفكار وآراء ولا نتقبلها على أنها حقائق لا تقبل المناقشة , فذاك أفضل من ثقافة القطيع التى نتبناها دوما .


عاطفة الأبوة


 أختلف مع المازنى فى هذا المقال فى نقطتين :

*ذكر المازنى أنه يسهل على الرجل أن يحول عاطفة الأبوة إلى مجرى آخر , فالذين يتبنون الآداب أو الفنون أو العلوم أو ما شاكل ذلك قد اعتاضوا من الأبناء هذا الذى شغفوا به , وأنا أختلف معه فى رأيه هذا لأنى أرى أن عاطفة الأبوة – مثلها مثل عاطفة الأمومة – لا يعوضها شعور آخر , والدليل على ذلك أننا كثيرا ما نجد رجالا حققوا نجاحا كبيرا فى حياتهم العملية ولكنهم يشعرون أن ثمة شيئا ما ينقصهم نتيجة غياب الأبناء , وإذا كان البعض يختار أن يضحى بالأبناء فى سبيل أشياء أخرى – وهؤلاء لا شك استثناء من القاعدة - فإن ذلك الاستثناء ليس قاصرا على الرجال بل يشمل الرجال والنساء .

*استشعرت من بعض العبارات التى قالها المازنى عن المرأة أنه لا يرى للمرأة وظيفة أخرى سوى أن تلد وترعى شئون أبنائها , ورغم عظم هذه الوظيفة التى لا يمكن لنا أن نزدريها أونقلل من شأنها إلا أن المرأة – إلى جانب ذلك – قادرة على القيام بمهام أخرى وتحقيق النجاح فيها مثلها مثل الرجل , ومن غير الإنصاف القول بأن المرأة إنما خلقت لتكون أداة للنسل ووسيلة لحفظ النوع .

صورة وصفية لصحفى


وهو من أكثر المقالات التى استمتعت بقراءتها فى الكتاب , وهو أول مقال قرأته حتى قبل أن أكمل المقدمة , ذلك لأننى أعمل فى مجال الصحافة ومن ثم شدنى هذا العنوان كما لم تشدنى العناوين الأخرى , وقرأته بشغف , وقد أعجبنى جدا , وظنى أن المازنى بالصورة التى رسمها لذلك الصحفى البائس الذى يستحق الشفقة يود أن يقول لكل صحفى مبتدئ حباه الله جمال الأسلوب ولكنه يفتقد الثقة بالنفس ويهاب مواجهة الناس أن موهبته فى الكتابة لا تضمن وحدها نجاحه فى مهنة الصحافة , فالقدرة على التعامل مع نوعيات ومستويات مختلفة من البشر تعد شرطا أساسيا للنجاح في هذه المهنة , وهى نصيحة هامة لأولئك الموهوبين الذين يعتقدون أن موهبتهم فى الكتابة كافية وحدها لنجاحهم فى مهنة الصحافة , وهو اعتقاد غير صحيح .


المقال فاز بجائزة جريدة المصرى اليوم فى مسابقة برنامج عصير الكتب لكتابة مقال حول الكتاب

الاثنين، 9 يناير 2012

رسالة إلى كل مثقف .. لا تكن "سكويلر"


حول رواية مزرعة الحيوانات للكاتب الإنجليزى جورج أورويل

كلما وجدت أحدهم يفعل مثلما يفعل "سكويلر" أشعر بالغضب المقرون بالاحتقار تجاهه وأتساءل : هل نسى الرقيب الذى إليه المنتهى؟


فى تعريف المثقف :


أتحدث عن "المثقف" الذى يرتضى أن يكون نصيرا للطغاة والمستبدين , والواقع أن كلمة "مثقف" تبدو دائما كلمة فضفاضة وعصية على التحديد , وقد اختلفت وجهات النظر حول تعريف " المثقف " اختلافا كبيرا , فهناك من يرى أنه شخص وﹸهب ملكة عقلية لتوضيح رسالة أو وجهة نظر أو موقف أو فلسفة أو رأى , أو تجسيد أى من هذه أو تبيانها بألفاظ واضحة لجمهور ما أو نيابة عنه(1) , وهناك من يرى أنه شخص يحمل فى ذهنه أفكارا من إبداعه هو أو من إبداع سواه , ويعتقد أن تلك الأفكار جديرة بأن تجد طريقها إلى التطبيق فى حياة الناس فيكرس جهده لتحقيق هذا الأمل ويجاهد فى إخراجها من عالم الفكر المحض إلى عالم التنفيذ(2) .


وبعيدا عن أى تعريف نظرى لتلك الكلمة , وكى أكون أكثر وضوحا فى ذهن قارئى , وكذلك أكثر بعدا عن الجدل النظرى الذى لا يحتمله هذا المقال , فإن كلمة "مثقف" تستخدم فى الغالب للإشارة إلى الأدباء والشعراء والمفكرين وأساتذة الجامعات والعاملين فى مجال الصحافة والإعلام - من صحفيين وكتاب ومذيعين ومعدى برامج - والفنانين أيا كانت نوعية الفن التى يمارسونها وغيرهم ممن يكونون – أو من المفترض أن يكونوا – على درجة أكبر من الوعى مقارنة بعامة الناس , ويستطيعون التأثير فى الرأى العام من خلال كتاب أو مقال أو محاضرة أو ندوة أو أغنية أو فيلم أو مسلسل أو برنامج إذاعى أو تليفزيونى أو رسم كاريكاتورى .... إلخ .


لا تكن مثله


هذا عن المرسل إليه ... أما عن الرسالة فمضمونها يتلخص فى عبارة واحدة قصيرة تتكون فقط من ثلاث كلمات , وهى : " لا تكن سكويلر " .


من "سكويلر" ؟


و"سكويلر" هذا هو إحدى الشخصيات الرئيسية فى رواية " مزرعة الحيوانات " للكاتب الإنجليزى "جورج أورويل" , فإلى جانب الخنزيرين "نابليون" و"سنوبول" كان هناك خنزير ثالث اسمه "سكويلر" , هذه الخنازير الثلاثة كانت أذكى حيوانات المزرعة وكانت الأكثر اتصالا بالخنزير العجوز "ميدل وايت" الذى كان أول من حرض الحيوانات على الثورة على الجنس البشرى ممثلا فى "مستر جونز" صاحب المزرعة للتخلص من كل الآلام والمصائب التى يسببها لهم الإنسان الذى يعتبر العدو الحقيقى لكل الحيوانات , وقد تلقى كل من "نابليون" و"سنوبول" و"سكويلر" عن هذا الخنزير العجوز مبادئه وتعاليمه وأخذوا على أنفسهم – بعد موته - أن يعلموها لباقى حيوانات المزرعة .. وبعد أن تحقق الحلم وقامت الثورة وتمكنت الحيوانات من الإطاحة ب"مستر جونز" حل الخنازير الثلاثة محله وتولوا زمام الأمور داخل المزرعة وأصبحوا المسئولين عن إدارة شئون الحيوانات .


"سكويلر" .. المثقف عندما ينحرف


كان "سكويلر" – كما يصفه الكاتب – متحدثا لبقا لديه قدرة كبيرة على الإقناع , وقد كانت حيوانات المزرعة معجبة بذكائه ومهارته وتقول أنه يستطيع أن يقنعها بأن الأسود أبيض والأبيض أسود , وقد كان "سكويلر" الذراع اليمنى للزعيم "نابليون" الذى كان يعتمد عليه فى تهيئة عقول الحيوانات لقبول القرارات المهمة التى يضعها , فمثل أى حاكم مستبد يعمل على تثبيت دعائم حكمه حتى يضمن بقاءه فى السلطة حرص "نابليون" على امتلاك أداة مادية للبطش بالمعارضين وإرهاب كل من يفكر فى التمرد وتمثلت هذه الأداة فى "الكلاب" , كما حرص فى الوقت ذاته على أن يتخذ "سكويلر" أداة لا تقل أهمية عن سابقتها وهى التى يستطيع من خلالها تزييف وعى الحيوانات وإيهامهم بأن "نابليون" هو الزعيم الذى يعيشون فى ظله فى سعادة ورفاهية رغم أن الواقع كان خلاف ذلك تماما, ومن ثم يمكن القول أن "سكويلر" يمثل – على الأقل من وجهة نظرى – نموذجا للمثقف الذى ينحرف عن مهمته ويخون رسالته ويرتضى أن يكون خادما للسلطة ملتزما بكافة مقتضيات تلك الخدمة من لىﹼ للحقائق وترويج للأكاذيب .


بعض من جرائمه


استغل "سكويلر" مواهبه وقدراته فى تضليل الحيوانات بإحلال الأكاذيب محل الحقائق من أجل خدمة "الزعيم" , فقد كان يتجول كل صباح فى أنحاء المزرعة - بتكليف من "نابليون" - ويختلط بجميع الحيوانات ليشرح لهم الإجراءات الجديدة التى تم اتخاذها وحكمتها وفائدتها , ويدعوهم إلى أن يقدروا هذه التضحية الكبيرة التى يقدمها "نابليون" , متحدثا عن طيبة قلبه وحبه العميق للجميع , فقد ضحى براحته من أجل راحتهم وارتضى – من أجلهم – أن يحمل على عاتقه جميع الأعباء , وكان يردد على أسماعهم باستمرار أن "نابليون" دائما على حق وأنه هو "وحده" الذى يعرف مصلحتهم ويبذل كل ما بوسعه من أجل تحقيقها , ويؤكد لهم أن الولاء أهم من كل شئ , والولاء – كما أخبرهم - ليس معناه الطاعة والخضوع ولكن معناه النظام .


وكان "سكويلر" يعمل دوما على تبرير الأخطاء - بل قل الجرائم - التى كان الزعيم "نابليون" يرتكبها, فقد برر للحيوانات مثلا استيلاء الخنازير دون غيرهم على اللبن والتفاح بأن الخنازير لا تشرب اللبن ولا تأكل التفاح من باب الأنانية ولكن من أجل مصلحتهم هم فقد ثبت بالعلم أن شرب كمية كبيرة من اللبن وأكل كمية كبيرة من التفاح أمر ضرورى لمن يعملون بأذهانهم مثلما يعمل الخنازير فى تنظيم المزرعة وإدارتها , ولو ضعفت عقولهم واختل تفكيرهم وفشلوا فى تأدية واجبهم على الوجه الأكمل فإن النتيجة المحتومة هى عودة مستر "جونز" .. وكان ذكر هذه "الفزاعة" كفيلا بإقناع الحيوانات بأن توافق على الفور على أى قرار يعرض عليها من قبل الزعيم "نابليون" .


وإلى جانب تجميل وجه "الزعيم" القبيح وتبرير جرائمه هناك أيضا تشويه صورة الشرفاء وتخوينهم وتزييف التاريخ بنسبة إنجازات قام بها آخرون إلى الزعيم , فحين قرر "نابليون" فى لحظة ما القضاء على "سنوبول" وإقصائه من المشهد ليتصدره هو بمفرده وليستأثر وحده بالسلطة كانت مهمة "سكويلر" أن يعمل على تشويه صورة "سنوبول" وإقناع الحيوانات بأنه لم يكن إلا مجرما وخائنا , وأنه يتآمر مع آخرين للهجوم على المزرعة , وذلك رغم أن "سنوبول" هذا هو بطل معركة "بيت البقر" التى وقعت بين حيوانات المزرعة من ناحية ومستر "جونز" ورجاله من ناحية أخرى حيث أبلى فيها بلاء حسنا وقاتل ببسالة وتم منحه نيشان "الحيوان البطل من الدرجة الأولى" بعد المعركة , إلا أن "سكويلر" أخذ يؤكد للحيوانات أن "نابليون" هو البطل الحقيقى لهذه المعركة ولولاه لكانوا جميعا اليوم فى عداد الموتى أو فى عداد العبيد !!


ورغم الواقع الأليم الذى كانت تعيشه حيوانات المزرعة بعد الثورة حيث كانت تعمل أكثر مما كانت تعمل أيام مستر "جونز" وتأكل أقل مما كانت تأكل تلك الأيام إلا أن "سكويلر" كان قادرا على أن يقنع الحيوانات بعكس ذلك حيث كان يثبت لهم "بالأرقام" أن حياتهم صارت أفضل كثيرا من ذى قبل , وعندما تقرر خفض كمية التموين باستثناء تموين الخنازير والكلاب كان "سكويلر" حاضرا كالعادة ليشرح ويفسر هذه النقطة حيث أكد للحيوانات أن الخنازير والكلاب هى أكثر الحيوانات عملا ومن ثم يجب أن تكون حصتها من التموين أكبر كثيرا من حصة الحيوانات الأخرى , وفضلا عن هذا فإن الأرقام التى قرأها "سكويلر" بصوت حاد قد أثبتت للحيوانات أن كل شئ أفضل مما كان فى العهد الماضى , أما فى التموين فقد حدث شئ من "التعديل فى التوزيع" وهو التعبير الذى أصر "سكويلر" على استعماله ولم يحدث أبدا أن اعتبر هذا تخفيضا !!


رسالة المثقف ودوره


لا شك أن الحديث عن "سكويلر" وأفعاله ذكرك عزيزى القارئ – تماما مثلما ذكرنى – بالعديد من "المثقفين" الذين يفعلون مثلما يفعل "سكويلر" سواء كانوا أساتذة جامعات أو صحفيين أو كتابا أو أدباء أو فنانين أو غيرهم , ممن يعيشون فى عصرنا أو ممن عاشوا فى عصور سابقة , ويبدو أنه كما يتشابه المستبدون فى كل زمان ومكان يتشابه كذلك أذنابهم وخدامهم وأساليب هؤلاء الأذناب والخدام فى الكذب والتضليل .


لا شك أن ما يفعله بعض "المثقفين" ممن يرتضون أن يكونوا خداما للسلطة من استغلال مواهبهم ومنابرهم فى تزييف الوعى والدفاع عن الظلم والفساد وإلباس الباطل لباس الحق وتشويه صورة الشرفاء والترويج لسياسات وقرارات تؤدى إلى زيادة معاناة الناس وحرمانهم من حقوقهم إلى غير ذلك من أفعال لا شك أن ذلك كله يتناقض تمام المناقضة مع الدور الذى يجب على المثقف أن يلعبه فى المجتمع , إذ من المفترض أن يكون أدة للتوعية والتنوير لا أداة للتضليل ونشر الأكاذيب , أن يشجب الفساد ويدافع عن الضعفاء والمظلومين لا يبرر ظلم الحاكم وفساده , ألا يخشى فى الحق لومة لائم لا يطأطئ الرأس ويقبل أن يتلقى الأوامر وينفذها مقابل الحصول على مال أو طمعا فى منصب , أن يقدم النصح للحاكم من أجل المصلحة العامة لا يداهنه أو ينافقه طمعا فى شئ أو خوفا من شئ وإيثارا للسلامة , أن يعمل من أجل الارتقاء بمجتمعه لا يكون سببا لنكبته وانهياره .


وإذا كان كل فرد فى المجتمع مكلفا - من الناحية الشرعية - بالأمر بالمعروف والنهى عن المنكر , وهو التكليف الذى وصفه الإمام أبو حامد الغزالى فى "إحياء علوم الدين" بأنه القطب الأعظم للدين(3), فلا شك أن المثقف - باعتباره الأكثر وعيا وقدرة على التأثير - يكون مطالبا أكثر من غيره بعدم السكوت عن المنكر فضلا عن أن يعمل على تبريره والدفاع عن مرتكبيه .


إن المثقف لا ﹸيقبل منه أن يلتزم الصمت تجاه أى ظلم أو فساد , ولا ﹸيقبل منه أن يقف موقفا وسطا بين الحق والباطل ظانًا أنه بذلك لم يخن رسالته بل عليه أن يعمل على نصرة الحق وشجب الباطل وإدانته بمنتهى القوة والوضوح .


كلمة أخيرة


إن المثقف الحقيقى لا يمكن أن يقبل – مهما كانت الإغراءات أو التهديدات .. مهما كانت المكاسب أو الخسائر – أن يكون "سكويلر" .. فلو فعل لن يفقد فقط أهليته لأن يكون مثقفا , بل سيفقد أيضا كرامته .. بل إنسانيته .




الهوامش :

(1)صور المثقف, إدوارد سعيد, دار النهار للنشر ش م ل, بيروت, الطبعة الثالثة, آب 1997, ص 28 .
(2)مجتمع جديد أو الكارثة, زكى نجيب محمود, الهيئة المصرية العامة للكتاب, القاهرة, 2008, ص 323 .
(3)للإسلام والديمقراطية, فهمى هويدى, مركز الأهرام للترجمة والنشر, القاهرة, الطبعة الأولى, 1993, ص86.

المقال فاز فى مسابقة لكتابة مقال حول الرواية قامت مكتبة الإسكندرية بتنظيمها صيف 2011