الاثنين، 9 يناير 2012

رسالة إلى كل مثقف .. لا تكن "سكويلر"


حول رواية مزرعة الحيوانات للكاتب الإنجليزى جورج أورويل

كلما وجدت أحدهم يفعل مثلما يفعل "سكويلر" أشعر بالغضب المقرون بالاحتقار تجاهه وأتساءل : هل نسى الرقيب الذى إليه المنتهى؟


فى تعريف المثقف :


أتحدث عن "المثقف" الذى يرتضى أن يكون نصيرا للطغاة والمستبدين , والواقع أن كلمة "مثقف" تبدو دائما كلمة فضفاضة وعصية على التحديد , وقد اختلفت وجهات النظر حول تعريف " المثقف " اختلافا كبيرا , فهناك من يرى أنه شخص وﹸهب ملكة عقلية لتوضيح رسالة أو وجهة نظر أو موقف أو فلسفة أو رأى , أو تجسيد أى من هذه أو تبيانها بألفاظ واضحة لجمهور ما أو نيابة عنه(1) , وهناك من يرى أنه شخص يحمل فى ذهنه أفكارا من إبداعه هو أو من إبداع سواه , ويعتقد أن تلك الأفكار جديرة بأن تجد طريقها إلى التطبيق فى حياة الناس فيكرس جهده لتحقيق هذا الأمل ويجاهد فى إخراجها من عالم الفكر المحض إلى عالم التنفيذ(2) .


وبعيدا عن أى تعريف نظرى لتلك الكلمة , وكى أكون أكثر وضوحا فى ذهن قارئى , وكذلك أكثر بعدا عن الجدل النظرى الذى لا يحتمله هذا المقال , فإن كلمة "مثقف" تستخدم فى الغالب للإشارة إلى الأدباء والشعراء والمفكرين وأساتذة الجامعات والعاملين فى مجال الصحافة والإعلام - من صحفيين وكتاب ومذيعين ومعدى برامج - والفنانين أيا كانت نوعية الفن التى يمارسونها وغيرهم ممن يكونون – أو من المفترض أن يكونوا – على درجة أكبر من الوعى مقارنة بعامة الناس , ويستطيعون التأثير فى الرأى العام من خلال كتاب أو مقال أو محاضرة أو ندوة أو أغنية أو فيلم أو مسلسل أو برنامج إذاعى أو تليفزيونى أو رسم كاريكاتورى .... إلخ .


لا تكن مثله


هذا عن المرسل إليه ... أما عن الرسالة فمضمونها يتلخص فى عبارة واحدة قصيرة تتكون فقط من ثلاث كلمات , وهى : " لا تكن سكويلر " .


من "سكويلر" ؟


و"سكويلر" هذا هو إحدى الشخصيات الرئيسية فى رواية " مزرعة الحيوانات " للكاتب الإنجليزى "جورج أورويل" , فإلى جانب الخنزيرين "نابليون" و"سنوبول" كان هناك خنزير ثالث اسمه "سكويلر" , هذه الخنازير الثلاثة كانت أذكى حيوانات المزرعة وكانت الأكثر اتصالا بالخنزير العجوز "ميدل وايت" الذى كان أول من حرض الحيوانات على الثورة على الجنس البشرى ممثلا فى "مستر جونز" صاحب المزرعة للتخلص من كل الآلام والمصائب التى يسببها لهم الإنسان الذى يعتبر العدو الحقيقى لكل الحيوانات , وقد تلقى كل من "نابليون" و"سنوبول" و"سكويلر" عن هذا الخنزير العجوز مبادئه وتعاليمه وأخذوا على أنفسهم – بعد موته - أن يعلموها لباقى حيوانات المزرعة .. وبعد أن تحقق الحلم وقامت الثورة وتمكنت الحيوانات من الإطاحة ب"مستر جونز" حل الخنازير الثلاثة محله وتولوا زمام الأمور داخل المزرعة وأصبحوا المسئولين عن إدارة شئون الحيوانات .


"سكويلر" .. المثقف عندما ينحرف


كان "سكويلر" – كما يصفه الكاتب – متحدثا لبقا لديه قدرة كبيرة على الإقناع , وقد كانت حيوانات المزرعة معجبة بذكائه ومهارته وتقول أنه يستطيع أن يقنعها بأن الأسود أبيض والأبيض أسود , وقد كان "سكويلر" الذراع اليمنى للزعيم "نابليون" الذى كان يعتمد عليه فى تهيئة عقول الحيوانات لقبول القرارات المهمة التى يضعها , فمثل أى حاكم مستبد يعمل على تثبيت دعائم حكمه حتى يضمن بقاءه فى السلطة حرص "نابليون" على امتلاك أداة مادية للبطش بالمعارضين وإرهاب كل من يفكر فى التمرد وتمثلت هذه الأداة فى "الكلاب" , كما حرص فى الوقت ذاته على أن يتخذ "سكويلر" أداة لا تقل أهمية عن سابقتها وهى التى يستطيع من خلالها تزييف وعى الحيوانات وإيهامهم بأن "نابليون" هو الزعيم الذى يعيشون فى ظله فى سعادة ورفاهية رغم أن الواقع كان خلاف ذلك تماما, ومن ثم يمكن القول أن "سكويلر" يمثل – على الأقل من وجهة نظرى – نموذجا للمثقف الذى ينحرف عن مهمته ويخون رسالته ويرتضى أن يكون خادما للسلطة ملتزما بكافة مقتضيات تلك الخدمة من لىﹼ للحقائق وترويج للأكاذيب .


بعض من جرائمه


استغل "سكويلر" مواهبه وقدراته فى تضليل الحيوانات بإحلال الأكاذيب محل الحقائق من أجل خدمة "الزعيم" , فقد كان يتجول كل صباح فى أنحاء المزرعة - بتكليف من "نابليون" - ويختلط بجميع الحيوانات ليشرح لهم الإجراءات الجديدة التى تم اتخاذها وحكمتها وفائدتها , ويدعوهم إلى أن يقدروا هذه التضحية الكبيرة التى يقدمها "نابليون" , متحدثا عن طيبة قلبه وحبه العميق للجميع , فقد ضحى براحته من أجل راحتهم وارتضى – من أجلهم – أن يحمل على عاتقه جميع الأعباء , وكان يردد على أسماعهم باستمرار أن "نابليون" دائما على حق وأنه هو "وحده" الذى يعرف مصلحتهم ويبذل كل ما بوسعه من أجل تحقيقها , ويؤكد لهم أن الولاء أهم من كل شئ , والولاء – كما أخبرهم - ليس معناه الطاعة والخضوع ولكن معناه النظام .


وكان "سكويلر" يعمل دوما على تبرير الأخطاء - بل قل الجرائم - التى كان الزعيم "نابليون" يرتكبها, فقد برر للحيوانات مثلا استيلاء الخنازير دون غيرهم على اللبن والتفاح بأن الخنازير لا تشرب اللبن ولا تأكل التفاح من باب الأنانية ولكن من أجل مصلحتهم هم فقد ثبت بالعلم أن شرب كمية كبيرة من اللبن وأكل كمية كبيرة من التفاح أمر ضرورى لمن يعملون بأذهانهم مثلما يعمل الخنازير فى تنظيم المزرعة وإدارتها , ولو ضعفت عقولهم واختل تفكيرهم وفشلوا فى تأدية واجبهم على الوجه الأكمل فإن النتيجة المحتومة هى عودة مستر "جونز" .. وكان ذكر هذه "الفزاعة" كفيلا بإقناع الحيوانات بأن توافق على الفور على أى قرار يعرض عليها من قبل الزعيم "نابليون" .


وإلى جانب تجميل وجه "الزعيم" القبيح وتبرير جرائمه هناك أيضا تشويه صورة الشرفاء وتخوينهم وتزييف التاريخ بنسبة إنجازات قام بها آخرون إلى الزعيم , فحين قرر "نابليون" فى لحظة ما القضاء على "سنوبول" وإقصائه من المشهد ليتصدره هو بمفرده وليستأثر وحده بالسلطة كانت مهمة "سكويلر" أن يعمل على تشويه صورة "سنوبول" وإقناع الحيوانات بأنه لم يكن إلا مجرما وخائنا , وأنه يتآمر مع آخرين للهجوم على المزرعة , وذلك رغم أن "سنوبول" هذا هو بطل معركة "بيت البقر" التى وقعت بين حيوانات المزرعة من ناحية ومستر "جونز" ورجاله من ناحية أخرى حيث أبلى فيها بلاء حسنا وقاتل ببسالة وتم منحه نيشان "الحيوان البطل من الدرجة الأولى" بعد المعركة , إلا أن "سكويلر" أخذ يؤكد للحيوانات أن "نابليون" هو البطل الحقيقى لهذه المعركة ولولاه لكانوا جميعا اليوم فى عداد الموتى أو فى عداد العبيد !!


ورغم الواقع الأليم الذى كانت تعيشه حيوانات المزرعة بعد الثورة حيث كانت تعمل أكثر مما كانت تعمل أيام مستر "جونز" وتأكل أقل مما كانت تأكل تلك الأيام إلا أن "سكويلر" كان قادرا على أن يقنع الحيوانات بعكس ذلك حيث كان يثبت لهم "بالأرقام" أن حياتهم صارت أفضل كثيرا من ذى قبل , وعندما تقرر خفض كمية التموين باستثناء تموين الخنازير والكلاب كان "سكويلر" حاضرا كالعادة ليشرح ويفسر هذه النقطة حيث أكد للحيوانات أن الخنازير والكلاب هى أكثر الحيوانات عملا ومن ثم يجب أن تكون حصتها من التموين أكبر كثيرا من حصة الحيوانات الأخرى , وفضلا عن هذا فإن الأرقام التى قرأها "سكويلر" بصوت حاد قد أثبتت للحيوانات أن كل شئ أفضل مما كان فى العهد الماضى , أما فى التموين فقد حدث شئ من "التعديل فى التوزيع" وهو التعبير الذى أصر "سكويلر" على استعماله ولم يحدث أبدا أن اعتبر هذا تخفيضا !!


رسالة المثقف ودوره


لا شك أن الحديث عن "سكويلر" وأفعاله ذكرك عزيزى القارئ – تماما مثلما ذكرنى – بالعديد من "المثقفين" الذين يفعلون مثلما يفعل "سكويلر" سواء كانوا أساتذة جامعات أو صحفيين أو كتابا أو أدباء أو فنانين أو غيرهم , ممن يعيشون فى عصرنا أو ممن عاشوا فى عصور سابقة , ويبدو أنه كما يتشابه المستبدون فى كل زمان ومكان يتشابه كذلك أذنابهم وخدامهم وأساليب هؤلاء الأذناب والخدام فى الكذب والتضليل .


لا شك أن ما يفعله بعض "المثقفين" ممن يرتضون أن يكونوا خداما للسلطة من استغلال مواهبهم ومنابرهم فى تزييف الوعى والدفاع عن الظلم والفساد وإلباس الباطل لباس الحق وتشويه صورة الشرفاء والترويج لسياسات وقرارات تؤدى إلى زيادة معاناة الناس وحرمانهم من حقوقهم إلى غير ذلك من أفعال لا شك أن ذلك كله يتناقض تمام المناقضة مع الدور الذى يجب على المثقف أن يلعبه فى المجتمع , إذ من المفترض أن يكون أدة للتوعية والتنوير لا أداة للتضليل ونشر الأكاذيب , أن يشجب الفساد ويدافع عن الضعفاء والمظلومين لا يبرر ظلم الحاكم وفساده , ألا يخشى فى الحق لومة لائم لا يطأطئ الرأس ويقبل أن يتلقى الأوامر وينفذها مقابل الحصول على مال أو طمعا فى منصب , أن يقدم النصح للحاكم من أجل المصلحة العامة لا يداهنه أو ينافقه طمعا فى شئ أو خوفا من شئ وإيثارا للسلامة , أن يعمل من أجل الارتقاء بمجتمعه لا يكون سببا لنكبته وانهياره .


وإذا كان كل فرد فى المجتمع مكلفا - من الناحية الشرعية - بالأمر بالمعروف والنهى عن المنكر , وهو التكليف الذى وصفه الإمام أبو حامد الغزالى فى "إحياء علوم الدين" بأنه القطب الأعظم للدين(3), فلا شك أن المثقف - باعتباره الأكثر وعيا وقدرة على التأثير - يكون مطالبا أكثر من غيره بعدم السكوت عن المنكر فضلا عن أن يعمل على تبريره والدفاع عن مرتكبيه .


إن المثقف لا ﹸيقبل منه أن يلتزم الصمت تجاه أى ظلم أو فساد , ولا ﹸيقبل منه أن يقف موقفا وسطا بين الحق والباطل ظانًا أنه بذلك لم يخن رسالته بل عليه أن يعمل على نصرة الحق وشجب الباطل وإدانته بمنتهى القوة والوضوح .


كلمة أخيرة


إن المثقف الحقيقى لا يمكن أن يقبل – مهما كانت الإغراءات أو التهديدات .. مهما كانت المكاسب أو الخسائر – أن يكون "سكويلر" .. فلو فعل لن يفقد فقط أهليته لأن يكون مثقفا , بل سيفقد أيضا كرامته .. بل إنسانيته .




الهوامش :

(1)صور المثقف, إدوارد سعيد, دار النهار للنشر ش م ل, بيروت, الطبعة الثالثة, آب 1997, ص 28 .
(2)مجتمع جديد أو الكارثة, زكى نجيب محمود, الهيئة المصرية العامة للكتاب, القاهرة, 2008, ص 323 .
(3)للإسلام والديمقراطية, فهمى هويدى, مركز الأهرام للترجمة والنشر, القاهرة, الطبعة الأولى, 1993, ص86.

المقال فاز فى مسابقة لكتابة مقال حول الرواية قامت مكتبة الإسكندرية بتنظيمها صيف 2011

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق