الخميس، 11 ديسمبر 2014

هل صحّت أحلامُ المصلحين؟

شهدت مصر خلال القرن التاسع عشر  ظهور عدد من الزعماء السياسيين والمصلحين الدينيين والاجتماعيين الذين عملوا على مواجهة حالة التخلف السائدة من أجل تحقيق الإصلاح والنهوض ، ورغم الجهود الكبيرة التي بذلها هؤلاء إلا أن الإصلاح ظل مطلبا غير متحقق بالصورة التي أرادوها ودعوا إليها، بل إنه يمكن القول إن الأوضاع بوجه عام اتجهت نحو الأسوء. ربما هذا الذي دفع مجلة الهلال في عددها الصادر في نوفمبر 1933 إلى طرح سؤال "هل صحت أحلام المصلحين؟" وذلك من خلال استفتاء طائفة من المفكرين وأصحاب الرأي حول "كبار المصلحين والزعماء الذين ظهروا في مصر وكان لهم أثر بارز في حياتها الجديدة من النواحي السياسية أو الاجتماعية أو الدينية". وتمثلت أسئلة الاستفتاء التي توجهت بها إليهم في : ماذا كان يحلم به المصلحون والزعماء في مصر؟ وماذا تحقق من أحلامهم؟ وماذا يُنتـَظـَر تحقيقه منها في المستقبل؟ وقد نُشِرَت الإجابات على شكل مقالات تناول كلٌ منها واحدا (أو اثنين) من المصلحين والزعماء. فقد كتب عبد الرحمن الرافعي عن محمد علي والخديو إسماعيل، ود. يحيى أحمد الدرديري عن جمال الدين الأفغاني، ومحمد رشيد رضا عن الشيخ محمد عبده، وحافظ رمضان عن مصطفى كامل، وإبراهيم الهلباوي عن قاسم أمين، وأحمد فريد رفاعي عن سعد زغلول. وسوف نركز هنا على المقالين الثاني والثالث عن جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده على الترتيب.

في مقاله عن الأفغاني ينقل الدرديري ما قاله عنه الأمير شكيب أرسلان إنه "كان يُعظِّم نفسه عن الشهوات ولا يرى من اللذات إلا اللذة العقلية العالية... وكان ينظر إلى المال نظره إلى التراب فلا يدخره ولا يتناول منه إلا ما هو ضروري للحياة". وينقل كذلك ما وصفه به أعظم تلاميذه (الشيخ محمد عبده) : "وهو كريم يبذل ما بيده، قويّ الاعتماد على الله، لا يبالي ما تأتي به صروف الدهر، عظيم الأمانة، سهل لمن لاينه، صعب على من خاشنه، طـَموح إلى مقصده السياسي... وهو قليل الحرص على الدنيا بعيد عن الغرور بزخارفها، مولع بعظائم الأمور عزوف عن صغارها، شجاع مقدام لا يهاب الموت... إلا أنه حديد المزاج، وكثيرا ما هدمت الحدة ما رفعته الفطنة".

وكان مطمح الأفغاني الأسمى -كما يشير الدرديري- الجامعة الإسلامية، ولكنّه - أي الأفغاني - تحدث عن إخفاق فكرته تلك في حياته ويأسه من تحقيقها بعد وفاته فقال في سنة 1892 قبل وفاته بخمس سنوات: "إن المسلمين قد سقطت هممهم ونامت عزائمهم وماتت خواطرهم وقام شيء واحد فيهم هو شهواتهم".

إلا أن جمال الدين - كما يعلق الدرديري - إذا كان قد أخفق في تحقيق مثله العالي فقد حقق لأمم الشرق مُثُلا عليا عديدة. وما أخفق في واقع الأمر إلا لأنّ ما ابتغاه صعب المنال عسير المرتقى في وقت طمع فيه الغرب في الشرق وألّب عليه الإحن والأحقاد ودس ساستُه السم في نواحي العالم العربي الإسلامي. وهو بالذات كان يطارده الاستعمار أينما حل وسار. على أن هذا المصلح الكبير قد نجح في حياته ونجح بعد وفاته وكان نجاحه متعددا كثير النواحي شهي الثمرات. ففي ناحية الفكر الحر نجده بذر بذورا صالحة أينعت بسرعة خارقة للعادة، فما أن بشّر بتعاليمه في مصر حتى أقبل يرتشف من منهله العذب صفوة من طلاب الأزهر في رأسهم محمد عبده وسعد زغلول وإبراهيم الهلباوي، ومن مفكري الإسكندرية عبد الله النديم وأديب إسحق وسليم نقاش، وغيرهم ممن استفادوا من علمه وفكره، وهؤلاء هم تلاميذه في مصر، ولا بدّ أنه قد تتلمذ عليه جهابذة في سائر البلاد الشرقية التي هبط إليها حاملا مشعل الحرية والفكر والجرأة على الاستبداد والنضال ضد التدخل الأجنبي والاستعمار.

ويرى الدرديري أن تأثير الأفغاني في رفع المستوى الخُلُقي أجلّ آثاره، فقد كان قدوة طيبة، والقدوة أفعل أثرا من الفكر ومن العلم ومن فصاحة اللسان ومن الدعاية النشطة الواسعة النطاق. وكان جريئا في إبداء رأيه لا يعبأ بما تجره الصراحة في الحق من عواقب وخيمة. ولقد طورد طول حياته فما اشتكى ولا تململ ولا فترت عزيمته. ولقد كان ثائرا على أخلاق الضعف من ملق ودس وحسد واستخذاء ونفعية. وإنّ نظرة واحدة إلى سيرته لتبعث في النفس سموا وترفع المرء إلى ذروة الأخلاق الفاضلة. يأتي بعد ذلك التأثير الفكري والأدبي، ويعتبر الدرديري تلاميذ الأفغاني الدليل المحسوس على أن هذا التأثير لا يقل عمقا عن تأثيره الخُلُقي.

يبدأ محمد رشيد رضا مقاله عن الشيخ محمد عبده بالإشارة إلى أنه نشر في الجزء الأول من "تاريخ الأستاذ الإمام" ما كتبه الأخير بيده في بيان ما دعا إليه من الإصلاح، وهو ينحصر في ثلاث دعوات جامعة لعدة مقاصد ما عدا الوسائل وهي : الإصلاح العقلي الذي يجمع بين هداية الدين ومنافع العلم وذلك بتحرير الفكر من قيد التقليد وفهم الدين على طريقة سلف الأمة قبل ظهور الخلاف والرجوع في كسب معارفه إلى ينابيعه الأولى. وقد بين ذلك بالقلم في "رسالة التوحيد"وهي مجملة موجزة، وأما تفصيله له بالإطناب التام فقد كان فيما قرره في دروس تفسير القرآن الكريم في الأزهر الشريف. وجاهد لإصلاح التعليم في الأزهر، وهذا الإصلاح لم يتحقق كما كان يريد ولكن لا يقال إنه قد خاب سعيه له بل وجد من وسائله التي رسمها له : النظام والتخصص والعلوم العصرية وتحضير الدروس في الأقسام العالية بدلا من المناقشات اللفظية في عبارات المتون والشروح والحواشي، ووجد فيه نابتة من تلاميذه وتلاميذهم ومتبعي خطته في استقلال الفكر والتفصي من قيود التقليد للمؤلفين الميتين، هم وسط بين حزب الجمود والخرافات القديم وحزب التفرنج الذي حدث بعده.

أما الدعوة الثانية فقد كانت لإصلاح اللغة العربية إذ كان يرى أن ارتقاء الأمة متوقف على ارتقاء لغتها. وكان له في إصلاح اللغة العربية مراحل : أولها طريقته في التعليم والتدريس في مدرسة "دار العلوم" إذ كان من أساتذتها الأولين منذ إنشائها. ومن أنفع محاضراته فيها ما كان يلخص به مقدمة ابن خلدون وينتقدها. وثانيها عمله في إدارة المطبوعات ورياسة تحرير جريدة الحكومة الرسمية "الوقائع المصرية" حيث أنشأ في الجريدة قسما أدبيا كان ينتقد فيه كل ما يراه منتقدا من أعمال الحكومة ولغة دواوينها ومصالحها. وكان من تأثير انتقاده للغة الدواوين أنه ألجأ جميع الكتاب فيها إلى دراسة اللغة في مدرسة ليلية أنشئت لذلك. وكان من أشهر تلاميذه في هذه المرحلة سعد زغلول. وثالث المراحل الأزهر، وكان عمله في إصلاح اللغة فيه نوعين : أحدهما إلقاء دروسه كلها باللغة الفصحى الممتازة برشاقة التعبير وبلاغة التأثير فكان فيه الأسوة العملية العليا، وثانيهما قراءته فيه لأعلى كتب البلاغة وأنفعها: أسرار البلاغة ودلائل الإعجاز لواضع فنها الأول الإمام عبد القاهر الجرجاني. وتلاميذه في هذه المرحلة كثيرون سواء من جهابذة المدرسين في دار العلوم، أو من نوابغ الأزهريين الخلص ومنهم الشيخ مصطفى عبد الرازق والشيخ عبد العزيز البشري والشيخ عبد الرحمن البرقوقي والمرحوم مصطفى لطفي المنفلوطي. وكان الأستاذ الإمام  يرأس في كل سنة لجنة امتحان طلاب دار العلوم ويرشد الطلبة في أثناء الامتحان إلى ما ينفعهم في اكتساب ملكة البيان.

أما الدعوة الثالثة فكانت -كما كتب رشيد رضا- إلى الإصلاح السياسي المصري فالإسلامي، حيث كان ناصرا ومؤيدا لداعيته الأول وواضع أسسه وهو أستاذه موقظ الشرق وحكيم الإسلام جمال الدين الأفغاني. وقد أسس معه في مصر الحزب الوطني الأول في عهد إسماعيل. ثم كان له معه سعي آخر للإصلاح السياسي الإسلامي الراقي العام وتأسيسهما جمعية العروة الوثقى السياسية التي أصدرا باسمها جريدة "العروة الوثقى" في باريس. ثم تصريحه بأنه ترك العمل السياسي لأنه ثمرة لتربية الأمة تربية خاصة فالواجب الأول العناية بهذه التربية. وكان كل رجائه في الإصلاح الديني منوطا بالمنار وتفسير المنـار


نُشِرَ هذا الموضوع في عدد ديسمبر 2014 من مجلة الدوحة تحت عنوان "هل تحقّقت أحلامُ المصلحين؟" يمكن الاطلاع عليه عبر هذا الرابط
http://www.aldohamagazine.com/article.aspx?n=422FBE98-96A9-4A0C-B835-86DC5F43828C&d=20141201#.VIjDuNKUeQl

الأربعاء، 17 سبتمبر 2014

المرأة في أدب العقاد

في إطار احتفالها بالذكرى الخمسين لرحيل عباس العقاد أصدرت الهيئة العامة لقصور الثقافة بمصر كتاب " المرأة في أدب العقاد" لمؤلفه أحمد سيد محمد . الكتاب عبارة عن دراسة نال عنها الباحث درجة الماجستير من كلية دار العلوم جامعة القاهرة عام 1970 بإشراف د. أحمد الحوفي . ينقسم الكتاب إلى مقدمة وتمهيد بعنوان "الحركة النسائية في مصر الحديثة وعوامل نهضتها" وخمسة فصول . يتناول الفصل الأول مصادر آراء العقاد في المرأة التي يردها الباحث إلى ثلاثة مصادر : المصادر الثقافية (إسلامية \عربية وشرقية \أوروبية) ، والبيئة والميول النفسية ، والتجارب والعلاقات النِّسْوية . ويشير الباحث إلى أن  الدين الإسلامي من أقوى مصادر التأثير في أدب العقاد عموما وفي نصيب المرأة من هذا الأدب خصوصا . وأن العقاد تأثر  بأفكار عبد الله النديم من خلال مجلته "الأستاذ" التي وجدها طفلا في مكتبة أسرته . كما تأثر بجمال الدين الأفغاني ومحمد عبده . وقد أجاد العقاد الإنجليزية وقرأ لتولستوي ودستوفسكي وبلزاك وجوته وشوبنهور وشكسبير وفرويد وغيرهم .

ولد العقاد ونشا في أسوان ، أي في مجتمع متدين له عاداته وتقاليده ، وبين أبوين محافظين ، وشهد في طفولته بناء خزان أسوان وقدوم الحملة الإنجليزية التي كانت معدة لفتح السودان مما أدى إلى وجود جاليات أوروبية في المدينة فوجد أمامه نموذجين للمرأة : الأسوانية المتحجبة والأوروبية السافرة مما منحه – كما تشير د. نعمات أحمد فؤاد – بسطة في الأفق وأعطاه قابلية الإحساس بسعة الحياة .

وكان لأمه ذات الأصول الكردية أبعد الأثر في حياته ، ورث عنها طول القامة وسمات الوجه ، وحب العزلة كي يقرأ ويكتب ويتأمل . أما عن علاقاته النسائية فمنها من لم تتجاوز حدود المودة كعلاقاته بقريباته وزميلاته وتلميذاته وصديقاته من الأديبات وغيرهن ، ومن ثم فإن خبرته بالمرأة لم تكن نتيجة علاقة عاطفية فحسب يحتجب فيها العقل وراء القلب . وإن كان لعلاقات الحب في حياته الأثر الكبير في شخصيته وفي آرائه وأفكاره حول المرأة . فقد أحب العقاد أكثر من مرة مع اختلاف في درجة الحب وأثره عليه . وهناك اختلاف حول عدد النساء اللاتي أحبهن ما بين 5 و6 و4 أو 3 كما ذهب أنيس منصور هن : مي زيادة والممثلة مديحة يسري ومن أسماها "سارة" في روايته الشهيرة التي تحمل نفس الاسم .

يعرض الفصل الثاني لرأي العقاد في طبيعة المرأة وخصائصها الجسمية والنفسية اعتمادا على نظريات علم التشريح وعلم النفس . فالضعف في رأي العقاد أوضح مظاهر التكوين الجنسي والاستعداد النفسي في المرأة . فالمرأة أضعف من الرجل وقد خلقت لتعتمد عليه . ومظاهر الضعف الأنثوي في نظر العقاد كثيرة سواء كانت جسمية أو شواهد تاريخية فسيطرة الرجل عليها خلال تاريخ الإنسانية الطويل مظهر من أكبر مظاهر ضعفها جسميا وعقليا . ومن الصفات الأخرى ضعف الإرادة والعناد والاحتجاز الجنسي الذي يراه غريزة مشتركة تعم إناث الحيوان والإنسان فالمرأة لا تبادر بل تنتظر أسبق الرجال إليها ، ويفرق بينه وبين الحياء ويذهب إلى أن المرأة أقل حياء من الرجل . ومن صفاتها أيضا الرياء ، والرحمة والعطف والحنان بالفطرة والغريزة وليس بوازع من فكر أو ضمير ، والتناقض والقدرة على اجتذاب الرجل من خلال الجمال والتجمل والدلال . وينظر العقاد إلى جمال المرأة من جانبين : جانب الروح وهو ما يسمى بخفة الدم وجانب الجسم الذي يبدو في الوجه لأن فيه العينين والشفتين ، وهي نافذة النفس على العالم . ويفضل العقاد النموذج العربي للجمال.

ويرى العقاد أن دور المرأة في الأسرة هو دور التابع وأن الزوج هو رئيس الأسرة . وأن مكانة المرأة رهن بالأمومة ، فهي كل شيء بأمومتها وليست بشيء على الإطلاق إذا نسيت هذه الأمومة ، وزهو المرأة بالأمومة أغلى لديها وألصق لطبيعتها من الزهو بولاية الحكم ورياسة الديوان . وأن الأم سر العظمة في أبنائها وما من رجل ممتاز قط كانت أمه صفرا من المزايا .وأفضل الزوجات عند العقاد هي التي تستطيع أن تجعل من بيتها كهفا أمينا لزوجها يأوي إليه من جحيم الدنيا . ويرى أن الحالة المثلى في الزواج عدم التعدد : رجل وامرأة يتحابان ويمتزجان بالجسم والروح ولا يفترقان مدى الحياة ولكن الضرورات قد تشرك مع المرأة غيرها بتعدد الزوجات .

ويرى العقاد أن المرأة لم تزود بالعطف والحنان والرفق بالطفولة لتهجر البيت وتلقي بنفسها في غمار الأسواق والدكاكين ، فعملها في البيت أكبر وأجل من أن تجمع بينه وبين السعي في طلب الرزق . وكل تغيير أو تبديل في ذلك ينظر إليه العقاد على أنه خلل يجب إصلاحه والقضاء عليه . ولكن عند الضرورة تخرج المرأة للعمل وعلى المجتمع أن يتيح فرصة متمشية مع طبيعتها . وبعض الأعمال يرى أنها غير صالحة للمرأة كالسياسة ولا سيما في عصور الاضطراب .

أهو عدو أم صديق للمرأة ؟ سؤال يطرحه الفصل الرابع حيث يذهب الباحث إلى أن اتهام العقاد بعدائه للمرأة من المفتريات التي شاعت حول الرجل ، فرغم قسوة بعض آرائه إلا أننا إذا قارنّا آراءه بآراء قاسم أمين نجد تقاربا كبيرا بينهما ولكن طبيعة كلا الرجلين حيث اتسم العقاد بالحدة والصراحة وكذلك طبيعة العصر تختلف .

ويفسر الباحث عدم زواجه بمزاجه الخاص الذي اتسم بالحدة وميله للعزلة وعلاقاته النسائية المتعددة التي ملأت حياته العاطفية ما بين عذرية خالصة وغير ذلك واقتناعه بأن المرأة تحتاج إلى رجل يشغلها ويملأ عواطفها وقلبها بصفة دائمة وهو غير قادر على ذلك ، واقتناعه كذلك بأن الإنسان أقدر المخلوقات الحية على خدمة نوعه بوسائل كثيرة غير تجديد النسل وزيادة عدده .

وعن أثر المرأة في أدبه يقول الباحث إن العقاد كتب قصة "سارة" من وحي المرأة وتجاربه معها وهي لون فريد في أدبه وانعكاس واضح لأثر المرأة فيه . كما حفل شعره بالتجارب الحية النابضة ورسم صورة لأكثر من امرأة أحبها . وكانت هذه التجارب من أكبر الحوافز التي دعته إلى دراسة قضية المرأة فزاد إنتاجه الأدبي كما وكيفا . وينقل الباحث ما كتبه طاهر الجبلاوي في كتابه "من ذكرياتي في صحبة العقاد" : "ملأت سارة حياة العقاد سرورا ومرحا .. وكان للأيام السعيدة التي قضاها معها أثر كبير في أدبه فقد خلعت عليه حللا من الجمال ووشته بأفانين من بدائع الخيال وألهبت شعوره الذي يستمد منه قلمه قوة وروعة ، فكانت مقالاته الأدبية والسياسية في تلك الفترة تمتاز بلون جديد وأسلوب فريد لا يخفى على أحد ."

(هذا الموضوع نُشِرَ -مختصرا- في مجلة الدوحة - عدد أغسطس 2014)
http://www.aldohamagazine.com/article.aspx?n=6652C92A-7228-4647-9B1B-66AA9E10955C&d=20140801#.VBlv1_mSyYA




الاثنين، 25 أغسطس 2014

أهم وظائف يدي

استيقظتْ ذات صباح يشغلها سؤال : ماذا لو فقدتُ يدي ؟
لم يكن هناك سبب يفسر لها ورود السؤال وإلحاحه ، فهي مثلا لم تر حُلما ذا علاقة ، ولا رأت في اليوم السابق شخصا مقطوع اليد ، ولا سمعت بتعرض أحدهم لحادث أفقده يده .
لم يشغلها التفكير في سبب السؤال ، بل شغلها السؤال نفسه ، وظلت تفكر في حالها عندئذ : كيف يكون ؟
يفيدنا معجم اللغة العربية بأن اليد "من أعضاء الجسد ، وهي من المنكب إلى أطراف الأصابع" .
في مخيلتها كان المقصود باليد الكف على وجه التحديد ، والكف – كما يفيدنا المعجم أيضا – "الراحة مع الأصابع" .
 أخذت تتخيل نفسها في الوضع الجديد :
حتما سأعاني كثيرا كأي إنسان في وضع مماثل ، خاصة أنني لا أجيد استخدام اليد اليسرى . سأجد صعوبة كبيرة في تناول الطعام والشراب ، في تمشيط شعري ، في ارتداء ملابسي . سأشعر بقصور عند استخدام الإنترنت ، وهاتفي المحمول ، وعند السلام على الآخرين .
تبدو صور معاناتي في الوضع الجديد لا نهاية لها .
ولكنّ الأمر الذي سيمثل أشد صور المعاناة وأقساها علي نفسي فقداني القدرة على الكتابة . لن يعود باستطاعتي الإمساك بقلمي للتعبير عما أفكر أوأشعر به ، كما كنت أفعل من قبل .
الأمور الأخرى التي ذكرتُ أمثلة لها سوف يمكنني التعامل معها بمساعدة آخرين ، أمي أو شقيقتي الكبرى مثلا .
ولكن كيف سأتصرف مع هذا الأمر تحديدا ؟ أمر الكتابة ؟
أُمْلِي على شخص آخر ليكتب ؟ لا ليس حلا . لا أحب أن يطّلع أحد على نصوصي وهي في طور التكوين ، وليس كل ما أكتبه يكون للنشر . ماذا عن مذكراتي اليومية ؟ لا ، مستحيل أن أطلع أحدا على هذه الأسرار ولو كان أقرب المقربين .
وحتى لو وجدتُ من أثق فيه ولا أخجل من إطلاعه على كل ، أو جل ، ما بداخلي من أفكار ومشاعر فلن يكون ذلك مجديا ، لن يعوضني عن متعتي الكبرى التي أجدها في الكتابة، رغم كونها مهمة شاقة. 
لقد اعتدت أن أكتب وأمحو ، أعيد الكتابة وأعيد المحو ، أعدل ما كتبته مرة بعد أخرى ، أستخدم الأسهم لإعادة ترتيب الفقرات والجمل ، أغير في المفردات . كيف يمكن لشخص أن يقوم مقامي بهذه المهمة ؟ مهما جاهد وجاهدتُ لن أصل إلى النتيجة المرضية بالنسبة لي .
لا يستطيع التعبير عني سوى قلمي ، الذي أمسك به .
إن هذا هو الشيء الذي لا يُحتمل ! فالكتابة شيء أساسي في حياتي ، بل هي الشيء الأساسي ، بل هي حياتي كلها ، بدونها لا حياة ، ولا بقاء بعد الموت .


كتبت في 10 مايو 2014

الاثنين، 28 أبريل 2014

بيت الدمية - هنرك إبسن


                   
مسرحية اجتماعية من 3 فصول ، تأليف هنرك إبسن (1848-1906) . بطلتها امرأة شابة (نورا) حياتها كلها لزوجها وأطفالها وبيتها ، حدث في السنوات الأولى من زواجها أن أصيب زوجها (تورفالد هيلمر)بمرض كاد يودي بحياته وقال الأطباء إن الأمل الوحيد في نجاته سفره وإقامته في الجنوب ، في إيطاليا . ولم يكن لديهم المال اللازم لهذه الرحلة فاضطرت الزوجة من أجل إنقاذ زوجها إلى الاقتراض من أحد الأشخاص (يدعى كروجشتاد) وذلك دون أن يعلم أحد  ، وظن الجميع أن والدها هو الذي تطوع بالمال .

نجحت الزوجة إذن في تدبير المال اللازم للرحلة التي كانت ضرورية لشفاء زوجها من مرضه ، ولم يكن زوجها يعلم شيئا عن خطورة حالته ولا عن ضرورة سفره للعلاج بل اقترحت عليه الزوجة الأمر كأنه رغبة شخصية لها للسفر والسياحة .

ولكي تفي بتعهداتها للدائن في مواعيدها كانت توفر القرش على القرش من مصروفها الخاص ، كانت حريصة على ألا تأخذ شيئا من مصروف البيت كي لا تقصر في حق زوجها وأطفالها أو تحرمهم من شيء فكانت تحرم نفسها بشراء أبسط أنواع الثياب وأرخصها . وكانت تضطر في بعض الأحيان إلى طرق أخرى لكسب المال مثل نسخ مجموعة من الأوراق التي كانت تعكف على كتابتها حتى ساعة متأخرة من الليل .

مرت السنوات وهي حريصة على تسديد أقساط الدين دون أن يعلم زوجها أو أي أحد . ولكن حدث أن اختير زوجها ليتولى منصب مدير البنك . جاءها الشخص الذي كانت قد اقترضت منه المبلغ وكان موظفا بنفس البنك ، وهددها بفضح الأمر لزوجها إن لم تقنعه بأن يبقيه في وظيفته بالبنك ولا يتخذ قرارا بفصله .

تبذل نورا جهدا كبيرا لإقناع زوجها بالإبقاء على هذا الموظف خشية افتضاح أمرها ولكن الزوج يرفض ويصر على فصله .

ينفذ كروجشتاد تهديده ويرسل خطابا لزوجها يخبره فيه بحقيقة الأمر .

كانت نورة تتوقع من زوجها أن يقدر ما فعلته لأجله ولأنها "أحبته أكثر من أي شيء آخر في الوجود"  وأن يبادر بتحمل التبعة بدلا منها ، ولكنها فوجئت برد فعل لم تتوقعه ، قال لها كلاما جارحا عن خسة أبيها وطباعه المتدهورة التي انتقلت إليها فلا دين ولا أخلاق ولا إحساس بالواجب . لم يفكر إلا في نفسه ، قال لها : "لقد حطمتِ سعادتي ودمرتِ مستقبلي " وصفها بأنها امرأة طائشة لا تقدر المسؤولية جعلته في قبضة أفاق محتال قادر على أن يفعل به ما يشاء وأن يطالبه بما يشاء وأن يملي عليه إرادته دون أن يملك هو له رفضا . قالت له : ستعود إليك حريتك عندما أنزاح من الطريق ، فيرد : وماذا يفيدني أن تنزاحي من الطريق ؟ أليس قادرا على نشر الفضيحة على الملأ ؟ لم يشغله سوى الفضيحة والخوف من أن يكون موضع اتهام بأنه كان شريكا لها في الجريمة أو أنه الفاعل الحقيقي من وراء ستار . يقرر أن يحاول ترضية هذا الموظف بطريقة ما حتى تبقى المسألة طي الكتمان مهما يكن الثمن "أما نحن فيجب أن نحافظ على المظهر أمام الناس كأن شيئا لم يحدث . ستبقين هنا بالطبع ولكنني لن أسمح لكِ بتربية الأطفال إذ لا تطاوعني نفسي على أن أتركهم في رعايتك" وأثناء حديثه الجاف إليها والذي كان صادما لها يدق جرس الباب ويصلهم خطاب باسمها يصر زوجها على أن يقرأه بنفسه  . كان الخطاب من كروجشتاد يعيد فيه الكمبيالة ويعتذر عما بدر منه . يطلق الزوج صيحة فرح : لقد نجوت ! – وأنا ؟ - وأنتِ أيضا  بالطبع . يتغير موقفه منها تماما بعد أن "زال الخطر" يقول لها : لقد غفرت لكِ كل شيء . إنني أدرك أن الدافع لك على ما فعلت كان حبا لي . أحببتني حب الزوجة لزوجها وإن أخطأكِ التوفيق في اختيار الوسائل . ولكن هل تحسبين أن حبي لكِ يقلل من شأنه ما تبدينه من عجز ؟ لا لا . كل ما عليك هو أن تعتمدي عليَ ، وأنا كفيل بالنصح والإرشاد . ما كنت لأعدّ من بني جنسي إن لم تزدني أنوثتك الضعيفة إقبالا عليك . طلب منها ألا تفكر في ما قاله لها لحظة الانفعال . يعود ليناديها كما كان يفعل دائما بـ"بلبلتي الصغيرة" و"أرنبتي الصغيرة" ويحاول استرضاءها بالكلام وطمأنتها يقول لها : اطمئني يا بلبلتي الصغيرة فإن لي أجنحة عريضة تأمنين في ظلها .. سأسهر عليكِ وأحميكِ  .... لتطمئن نفسك يا نورا ، وما عليكِ إلا أن تصارحيني القول دائما ، وسأكون لكِ بمثابة الإرادة المنفذة والضمير المرشد معا . ولكن كل كلامه هذا الذي حاول استرضاءها به كان دون جدوى ، لقد صارت تنظر إليه بـ"وجه جامد القسمات" ، وطلبت منه أن يجلسا للمناقشة فهناك كلام كثير تريد أن تقوله له .  
لقد أذنبتما في حقي .. أبي أولا ثم أنت من بعده . كان أبي في ما مضى يسر إلي برأيه في كل كبيرة وصغيرة فنشأت أعتنق نفس آرائه ، وإذا حدث أن كونت لنفسي رأيا مخالفا كنت أكتمه عنه خشية أن أضايقه . كنت في نظره عروسا من الحلوى ، يدللني كما كنت أدلل عرائسي ولعبي . وعندما انتقلت لأعيش معك انتقلت من يد أبي إلى يدك ووجدتك تنظم الكون من زاويتك الخاصة فتبعتك في الطريق المرسوم أو تظاهرت بأنني أتبعك لست أدري أيهما . والآن عندما أعود بذهني إلى الوراء يخيل إليّ أنني لم أكن أزيد من عابرة سبيل كل همها أن تسد مطالب يومها . كانت وظيفتي ، كما أردتها لي ، أن أسليك . أنت وأبي جنيتما عليّ . والذنب ذنبكما إذا لم أصنع من حياتي شيئا ذا قيمة .

(....) مع اعترافي بحسن معاملتك لي دائما (....) ولم تختلف نظرتك إليّ عن نظرة أبي . كلاكما اعتبرني لعبة أو عروسا من الحلوى . وانتقلت العدوى إليّ فعاملت أطفالي بنفس المنطق . ولم يكن سروري عندما تداعبني بأقل من سرورهم عندما أداعبهم . هذه خلاصة حياتنا الزوجية يا تورفالد .

(عندما قلت إنني لا أصلح لتربية الأطفال) لم تقل إلا الصدق . إنني لا أصلح لهم . وعليّ أولا أن أقوم بتربية نفسي وأتعلم الحياة . وهذه ليست مهمتك بل مهمتي أنا . ولهذا قررت أن أتركك الآن .

 يجب ألا أعتمد إلا على نفسي إذا أردت أن أتفهم سريرة نفسي ، وألم بالعالم المحيط بي  . وهذا ما يدفعني إلى الانفصال عنك .

وغدا أقصد بيت أبي حيث نشأت (....) يجب أن أتزود بما ينقصني من دراية يا تورفالد (....) لست أبالي بما يقوله الناس . (تقول إن أقدس واجباتي هي واجباتي نحو زوجي وأولادي) ولكن لديّ واجبات أخرى لا تقل عنها قداسة هي واجباتي نحو نفسي (....) إنني مخلوق آدمي عاقل .. مثلك تماما . أو على الأقل هذا ما يجب ان أسعى إليه . صحيح يا تورفالد أن معظم الناس قد يتفقون معك ، فهذه الآراء تحتشد بها صفحات الكتب ، ولكنني ما عدت أقنع بما يراه الناس ولا بما يرد في الكتب . أريد أن أزن الأشياء بوحي من فكري أنا لا من فكر الغير وأن أرقى بنفسي إلى مرتبة الفهم والإدراك . (وماذا عن تعاليم الدين؟ يسألها تورفالد) ترد : لا يسع علمي أكثر من القشور  التي تلقفتها من فم الكاهن يوم الاعتراف إذ أوصانا بما تنص عليه تعاليم الدين دون أن نفقه بالضبط ما يرمي إليه . على أية حال ، عندما أختلي بنفسي سأقلب الأمر من كافة وجوهه لأصل إلى جوهر الموضوع .

لم أعد أحبك ، رغم أنك كنت لطيفا دائما معي ولكني أدركت الليلة أنك على خلاف ما كنت أظن . لم يخطر لي ببال عندما وصل خطاب كروجشتاد أنك سترضخ لشروطه بل كنت متأكدة انك ستقول له "أذع القصة على الملأ" ثم .. ثم تتقدم لتتحمل عني وزر المسؤولية قائلا "أنا المذنب" ... يقول لها : إنك تفكرين وتتكلمين كطفلة لم يكتمل نموها ، ترد : ربما . أما انت فلا تفكيرك ولا كلامك يتفقان مع ما يجب أن يتوافر في الرجل الذ أشاطره حياتي . فعندما زالت مخاوفك – في ما يخصك أنت لا في ما يخصني أنا – وعندما تبدد الخطر بالنسبة لك  عادت الأمور إلى نصابها وكأن شيئا لم يحدث ، وأصبحت من جديد بلبلتك الصغيرة ودميتك المسلية التي يجب أن تزيد في حرصك عليها وعنايتك بها في المستقبل بسبب ضعفها وسرعة تعرضها للكسر .

هذا باختصار أهم ما قالته نورا لتورفالد خلال مناقشتهما ، والتي غادرت منزل الزوجية بعدها مباشرة ، ولم تفلح توسلات تورفالد ومحاولاته ثنيها عن ذلك ، وذلك "بعد أن أيقنت أنه لم يكن سوى بيت الدمية وأنها لم تكن فيه سوى دمية يقتنيها ويملكها زوجها ."

قرأت طبعة دار المدى للثقافة والنشر 2004 ، طبعة خاصة توزع مجانا مع جريدة القاهرة . اشتريتها من شارع النبي دانيال ، بجنيه واحد على ما أذكر .

نبذة عن المؤلف (كما هو مكتوب على غلاف الكتاب)

يعد الكاتب المسرحي هنرك إبسن (1848 – 1906) واحدا من أعظم كتاب المسرح بعد شكسبير ، فهو صاحب النقلة الكبرى في المسرح الأوروبي التي استند إليها كل من جاء بعده من المسرحيين .

ولد في النرويج ، ومرت حياته بمنعطفات حادة بعد وفاة أبيه وهو في الخامسة عشرة من عمره إلا أنه تجاوزها بإرادته القوية واستطاع الجمع بين الدراسة والعمل ، ثم تنقل بين إيطاليا وألمانيا حيث كتب أهم أعماله : البطة البرية ، الأشباح ، بيت الدمية ، وهي الأعمال التي جعلته وريثا للمسرح الإغريقي القديم وأبا للمسرح المعاصر .

امتازت أعماله المسرحية بالواقعية التعبيرية والعمق الإنساني وجرأتها في طرح الموضوعات ذات الحساسية الاجتماعية مثل الكذب والنفاق والمظاهر الخادعة .

 من مقدمة عبد الحكيم البشلاوي :

لم تكن "بيت الدمية" أولى مسرحيات إبسن ، ولكنها كانت المسرحية التي جلبت له الشهرة والصيت البعيد والتي جعلت منه كاتبا مسرحيا عالميا . فقد اشتد حولها الجدل وتهافتت الفرق التمثيلية على أدائها . وكان معظم الجدل الذي ثار حولها منطويا على هجوم على إبسن . لقد ثار النقاد على ذلك الكاتب المسرحي الذي قدم لهم في شخص نورا زوجة تكافح في سبيل استقلالها وحريتها ومساواتها بالرجل . وقد يبدو ذلك لنا اليوم غريبا ، ولكن ، لكي ندرك مدى ما كان في شخصية نورا من تمرد على التقاليد وخروج على سيطرة الزوج ينبغي أن نفكر بعقلية 1879 .

ثار النقاد على إبسن : كيف يقدم لهم شخصية كهذه الزوجة ؟ وكيف يجرؤ على أن يجعلها تبيح لنفسها حق المشاركة في تحمل عبء المتاعب المالية للحياة الزوجية فتستدين وتتورط في الدين وتزور إمضاء أبيها ؟ وكيف ، وهو الأدهى والأمر في نظرهم ، تغادر  بيت الزوجية في نهاية الأمر غاضبة ثائرة وتصفق خلفها الباب؟

لم تعجبهم المسرحية إذن فراح كل واحد يتناولها بالمسخ والتعديل ، كل حسب مزاجه في مختلف بلاد أوروبا . ومن هنا تراءى لإبسن أن يحاول إرضاء الثائرين ، فعدل خاتمة المسرحية وجعل نورا بعد أن صفقت خلفها الباب تعود إلى البيت لترعى أولادها . وكان هدف إبسن من ذلك أن يقنع النقاد والخرجون بهذا التعديل ويكتفوا به ، فيخرجوا مسرحيته كما هي بدون مزيد من التعديل .

والنص الذي نقدمه للقاريء الآن (يقصد هذه الطبعة) هو النص الأصلي للمسرحية قبل التعديل ، وهو النص الذي اتفق النقاد اليوم على أنه هو الأفضل ، بل هو الذي فضله إبسن نفسه .

إن مسرحية إبسن هذه هي عمل فني أصيل ونقطة تحول خطيرة في كتابة المسرحية الحديثة لسببين :

السبب الأول : إن إبسن خرج بها على القاعدة المأثورة في بناء "المسرحية المحكمة" ، وهي المسرحية التي تبدأ من البداية وتنتهي عند النهاية . فهو هنا يبني وينشيء ذلك النوع من المسرحية الذي يعرف الآن بـ"المسرحية ذات التحليل الرجعي" بمعنى أن المسرحية تتعرض لتحليل حادث معين تم حدوثه بالفعل قبل أن يبدأ تسلسل الأحداث على خشبة المسرح . ومن سياق المسرحية واطراد أحداثها يأخذ ذلك الحادث السابق في الظهور شيئا فشيئا ويتكشف للمشاهد بالتدريج ، الأمر الذي يضاعف قوة المسرحية ويزيد تأثيرها في نفوس الجمهور . وقد اطرد استخدام هذا الأسلوب في البناء الدرامي بعد إبسن .

السبب الثاني : إن إبسن خرج كذلك على قاعدة أخرى مأثورة في كتابة المسرحية . وهنا ندع الكاتب العبقري جورج برنارد شو يتكلم فيقول : "من قبل كانت المسرحية المحكمة تتكون من العرض في الفصل الأول والعقدة في الفصل الثاني والحل في الفصل الثالث . أما الآن – أي بعد إبسن – فإن المسرحية تتكون من تاعرض والعقدة والمناقشة . والمناقشة هي محك الكاتب المسرحي" .

هذه هي الوثبة التي وثبها إبسن بالمسرحية ، وهذا هو وجه الخلاف الحقيقي بينه وبين شكسبير . هذا هو الأساس الذي وضعه إبسن ليبني فوقه من جاء بعده من عباقرة الدراما ، وعلى رأسهم جورج برنارد شو نفسه .

وإذا كان برنارد شو يأخذ على هذه المسرحية أن المناقشة فيها لم تبدأ إلا متأخرة في الفصل الثالث ، إلا أنه مع ذلك يقول إن هذه المناقشة غزت أوروبا وأصبح الكاتب المسرحي الجاد يقر بأن المناقشة ليست المحك الرئيسي لموهبته وقوته فحسب ، بل هي كذلك المحور الحقيقي الذي تدور حوله المسرحية .

في الفصل الثالث من مسرحية "بيت الدمية" تقول نورا لزوجها : اجلس هنا يا تورفالد لا بد لنا من حديث طويل ... إن هذا أمر يستغرق بعض الوقت . لدي كلام كثير أريد أن أفضي به إليك .

وهكذا تمضي نورا تناقش زوجها في المشكلة التي جسمت الخلاف بينهما . وبهذه المناقشة تنتهي المسرحية . ومن هذا نرى أن "المناقشة"  عند إبسن أخذت مكان "الحل" عند من سبقوه من كتاب المسرح . ثم جاء من بعد إبسن كتاب جعلوا المناقشة تستغرق المسرحية بأكملها ، كما فعل برنارد شو في مسرحيتي "الزواج" و"ورطة الطبيب" وغيرهما .

حول مسرح إبسن – بقلم كامل يوسف

كتابات إبسن تكاد تكون في مجموعها قصيدة مطولة في امتداح الإرادة الإنسانية . وهو عندما يدعونا إلى القوة والمثابرة ، لا يريد منا أن نتشبه بالنموذج الوحشي الفظ الذي يريده نيتشه ، وإنما يطالبنا بالتمسك بحقوقنا والدفاع عنها حتى الممات .

وهو يمجد الإرادة التي تسلك طريق التجارب المحفوف بالمخاطر والمصاعب لكي تجد نفسها وتعرف كينونتها .

وقد يكون إبسن مرشدا أخلاقيا ، إلا أنه أولا وقبل كل شيء فنان أصيل . وكل ما في الأمر أن الفنان فيه يمتزج بالنزعة الأخلاقية ، وتلك النزعة الأخلاقية تتشرب باتجاه فلسفي . وكل هذا المزيج ينصهر في قلمه ككاتب مسرحي . فالمسرح هو المنبر الذي يرسل منه أفكاره . وهو كفنان لا يجعل المواعظ هدفه الرئيسي ، وإنما يضمنها إنتاجه لكي يستنبطها المتفرج من ثنايا العرض .

وتستطيع ، مع شيء من التجاوز ، أن نقسم مسرحياته إلى 3 مراحل : أولاها المرحلة التاريخية ، وثانيتها المرحلة الرومانسية الشعرية ، وثالثتهما المرحلة الاجتماعية .

وعلى الرغم مما تحويه بعض مسرحياته التاريخية والشعرية من لمحات فذة ، إلا أن شهرته الفعلية تستمد جذوتها من الفترة الأخيرة . فلقد وضعها في سن النضوج بعد أن تمرست يده على الكتابة ، ووضحت في ذهنه الأفكار ، ونمت لديه حاسة النقد ، وبرزت واقعية مذهبه .

وتحتوي مسرحية (بيت الدمية) على أروع تصوير للمرأة في كل كتابات إبسن ، ويذهب البعض إلى الاعتقاد بأنها تعبير صريح عن رأيه في وظيفة المرأة من الوجهة الاجتماعية ، وعن مكانها في الحياة .

والمسرحية ، من الناحية الفنية ، تتفوق على معظم مسرحياته الاجتماعية الأخرى ، إذ بلغ فيها أسلوبه الخاص قمة النضوج . فهي تمثل وحدة عضوية متكاملة ، تتشابك فيها الأجزاء تشابكا وثيقا ، وتقودنا فيها كل مرحلة إلى التي تليها في يسر منطقي .

 

 

                                   

 

 

الخميس، 17 أبريل 2014

الهاشتاج فتنة وفساد في الأرض

تحت هذا العنوان نشرت إحدى الصحف المصرية الحكومية تحقيقا صحافيا يوم الأربعاء الماضي ( 9 إبريل ) في صفحة "فكر ديني" . يستطلع التحقيق آراء عدد من علماء الدين في الهاشتاج الشهير (#انتخبوا_ال - - - ) الذي أنشأه نشطاء على موقع تويتر عقب إعلان السيسي ترشحه للرئاسة وتفاعل معه عدد كبير من المستخدمين وصل إلى عدة ملايين . وفقا للتحقيق المنشور فقد عُرِّفَ الهاشتاج (هكذا بشكل عام) بأنه "إطلاق ألفاظ خارجة لبعض المرشحين لرئاسة الجمهورية والشخصيات العامة " وذلك بعد "ظهور مجموعة كبيرة من الشباب تقوم بتجريح المرشحين على الشبكة العنكبوتية" وعُدّ ذلك "سلوكا مشينا وانحطاطا أخلاقيا وجريمة مسيئة للدين والوطن يجب عقاب مرتكبيها شرعا" .

يعرض التحقيق آراء ثلاثة من أساتذة جامعة الأزهر في أمر الهاشتاج ، استنكروه جميعا وساقوا الآيات القرآنية والأحاديث النبوية للتأكيد والتشديد على فداحة الجرم الذي ارتكبه كل من شارك في هذه "الفتنة" وهذا "الفساد في الأرض" .

فقد أكد أحدهم أن "استخدام الشعارات المسيئة على الشبكة العنكبوتية ليست من الإسلام في شيء (...) وأن هذه الكلمات الخادشة للحياء تدل على عدم حياء فاعلها (...) والإضرار بالناس وإيذاؤهم واتخاذ وسائل المعايرة والمعايبة يدل على تدني الأخلاق وانحطاط سلوكي لا يفعله إلا الذين لا يقدرون حدود الله ولا يراعون مشاعر الناس ، والتعليقات الساخرة على الشبكة العنكبوتية تدل على فقدهم أدنى مكارم الأخلاق ، ومن الواجب على المواطن الحر أن يبادر بإصلاح هذا الفساد الاجتماعي والتدني الأخلاقي لأن ذلك من باب تغيير المنكر ، وهذه الأفعال الرديئة حرام حرام ، ويجب الأخذ بشدة على مرتكبي هذه الجرائم المسيئة للدين والوطن ."

 وأكد آخر أن "الذين يسبون غيرهم بهذه الألفاظ المسيئة قد أساءوا إلى أنفسهم أولا لأنهم خالفوا تعاليم الإسلام ، وأساءوا إلى وطنهم ثانيا لأنهم حرضوا الناس على الإساءة وعلى أن ينطقوا بكلام سيء ، كما أنهم أساءوا إلى دينهم ثالثا لأنهم يظهرون أمام الآخر الذي لا يؤمن بالعقيدة الإسلامية أن الدين الإسلامي لا يحترم أبناءه ولا يحترم أتباعه فكيف بالذين يخالفون هذه العقيدة ؟"

بينما اتخذ ثالثهما موقفا أقل حدة ، فعلى الرغم من قوله إن "ما رأيناه على الشبكة العنكبوتية من سب وهمز ولمز محرم شرعا ولا ينبغي لأي شخص يؤمن بالله ورسوله أن يفعل هذا الأمر" فإنه لم يطالب بتوقيع العقاب الشرعي كما فعل سابقاه بل "طالب من شاركوا في هذا العمل المشين بالتوبة إلى الله والندم على هذا الفعل والعزم على عدم العودة له أبدا والاستغفار لمن أخطأ الإنسان في حقه (وهو هنا السيسي) " كما طالبهم باستخدام الشبكة العنكبوتية في "الأغراض المفيدة" .

لقد أثار هذا الهاشتاج الحمية في نفوس هؤلاء فهبوا يعبرون عن استنكارهم الشديد  لجريمة التفاعل معه والمشاركة فيه مطالبين بإنزال العقاب الشرعي الملائم (الذي لم يحددوه لنا بالمناسبة) على كل من شارك فيه أو تفاعل معه ، بينما لا نجد إزاء انتهاكات جسيمة تقع  لحق الإنسان في الحرية والكرامة وفي الحياة  سوى أصوات التأييد والثناء والمدح الذي يصل إلى درجة لا تجوز لأكثر الحكام عدلا ورحمة فما بالنا بنظام هو الأكثر بطشا وظلما واستبداد ؟

لقد أفرد عبد الرحمن الكواكبي في كتابه الشهير "طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد" مبحثا مستقلا بعنوان "الاستبداد والدين" تحدث فيه عمن أسماهم "علماء الاستبداد" أو "فقهاء الاستبداد" الذين يعينون المستبد على "ظلم الناس باسم الله" إذ أن كثيرا ما يحاول المستبدون "بناء أوامرهم أو تفريعهاعلى شيء من قواعد الدين" لضمان أن يتلقى الناس قواعدهم وأحكامهم تلك "بإذعان بدون بحث أو جدال" ولذلك يعمد علماء الاستبداد إلى تضليل الناس بتحريف الكلم عن مواضعه ، وبدلوا الدين وطمسوا على العقول حتى جعلوا الناس ينسون لذة الاستقلال وعزة الحرية بل جعلوهم لا يعقلون كيف تحكم أمة نفسها بدون سلطان قاهر ، فتحول الدين إلى آلة للأهواء السياسية .

تعد السخرية التي يعدها علماء الاستبداد إذا استخدمنا توصيف الكواكبي  "انحطاطا سلوكيا وتدنيا أخلاقيا وجريمة تستوجب العقاب الشرعي" إحدى الوسائل المعروفة لمقاومة الاستبداد من أجل هدم المكانة العالية التي يعمل المستبد على بنائها في نفوس الناس والقضاء على هيبته لديهم ، وقد عُرِف المصريون دائما بلجوئهم للسخرية من حاكميهم ، وقد وفرت وسائل التواصل الاجتماعي ومنها تويتر ساحة حرة للتعبير عن الآراء ونشر الأخبار في ظل إعلام الصوت الواحد .

المطلوب إذن من "المؤمنين" أن يتأدبوا مع المستبد وأن يراعوا مشاعره ولا يسخروا منه احتراما "للأخوة في الدين" ، وإذا حدث وأنساهم الشيطان "حقوق الأخوة" فعليهم ان يتوبوا ويستغفروا لمن أخطاوا في حقه ، وكأنه لا يُسأل عما يفعل وهم يسألون ، يقول الكواكبي : "يلتبس عليهم (أي على عوام البشر) الفرق بين الإله المعبود بحق وبين المستبد المطاع بالقهر ، فيختلطان في مضايق أذهانهم من حيث التشابه في استحقاق مزيد التعظيم والرفعة عن السؤال وعدم المؤاخذة على الأفعال  ، بناءً عليه لا يرون لأنفسهم حقا في مراقبة المستبد لانتفاء النسبة بين عظمته ودناءتهم (...) يعظمون الجبابرة تعظيمهم لله ويزيدون تعظيمهم على التعظيم لله لأنه حليم كريم ولأن عذابه آجل غائب وأما انتقام الجبار فعاجل حاضر" ، ويضيف في فقرة تالية "وهذه الحال هي التي سهلت في الأمم الغابرة المنحطة دعوى بعض المتبدين الألوهية على مراتب مختلفة حسب استعداد أذهان الرعية ، حتى يقال إنه ما من مستبد سياسي إلى الآن إلا ويتخذ له صفة قدسية يشارك بها الله أو تعطيه مقام ذي علاقة مع الله" .

لقد خدش اللفظ المذكور في الهاشتاج حياء هؤلاء وأثار استنكارهم وغضبهم فماذا عن ألفاظ أخرى أشد سوءا وقبحا يُسَبّ بها آلاف المعارضين المعتقلين بتهم جاهزة وملفقة في السجون وأقسام الشرطة وداخل مديريات الأمن ؟ وبينهم نساء وأطفال "تؤذيهم هذه الألفاظ" كما ذكر أحد الشيوخ المستطلع رأيهم . لا يقتصر الأمر بالطبع على هذه الإساءات المعنوية التي قد يكون وقعها على النفس أشد وأقسى من الانتهاكات الجسدية (ومنها انتهاكات جنسية واغتصاب كما تروي لنا شهادات المعتقلين المروعة ) والتعذيب البدني الذي تتنوع صوره وأشكاله وإن اتفقت جميعها في الوحشية وإهدار كرامة الإنسان وآدميته . وهناك مئات أو آلاف القتلى من المعارضين منذ الانقلاب العسكري .

ثم يأتي هؤلاء ليصفوا أحد أشكال المعارضة لنظام كهذا  بأنها فتنة وفساد في الأرض بدعوى استخدام ألفاظ خارجة ومسيئة لا يقرها الشرع ، بينما هم إزاء أفعال السلطة (التي تمثل الفتنة الحقيقية والفساد الحقيقي في الأرض والتي لا يقرها شرع ولا عقل ولا حتى فطرة سليمة) إما صامتون أو مؤيدون بكل ما أوتوا من قوة رافعين رموز هذه السلطة إلى منزلة الأنبياء وأولياء الله .

لقد قالها الكواكبي منذ أكثر من مئة عام : "اللهم إن المستبدين وشركاءهم قد جعلوا دينك غير الدين الذي أنزلت فلا حول ولا قوة إلا بك" .
 
رابط التحقيق على موقع الأهرام