الخميس، 17 أبريل 2014

الهاشتاج فتنة وفساد في الأرض

تحت هذا العنوان نشرت إحدى الصحف المصرية الحكومية تحقيقا صحافيا يوم الأربعاء الماضي ( 9 إبريل ) في صفحة "فكر ديني" . يستطلع التحقيق آراء عدد من علماء الدين في الهاشتاج الشهير (#انتخبوا_ال - - - ) الذي أنشأه نشطاء على موقع تويتر عقب إعلان السيسي ترشحه للرئاسة وتفاعل معه عدد كبير من المستخدمين وصل إلى عدة ملايين . وفقا للتحقيق المنشور فقد عُرِّفَ الهاشتاج (هكذا بشكل عام) بأنه "إطلاق ألفاظ خارجة لبعض المرشحين لرئاسة الجمهورية والشخصيات العامة " وذلك بعد "ظهور مجموعة كبيرة من الشباب تقوم بتجريح المرشحين على الشبكة العنكبوتية" وعُدّ ذلك "سلوكا مشينا وانحطاطا أخلاقيا وجريمة مسيئة للدين والوطن يجب عقاب مرتكبيها شرعا" .

يعرض التحقيق آراء ثلاثة من أساتذة جامعة الأزهر في أمر الهاشتاج ، استنكروه جميعا وساقوا الآيات القرآنية والأحاديث النبوية للتأكيد والتشديد على فداحة الجرم الذي ارتكبه كل من شارك في هذه "الفتنة" وهذا "الفساد في الأرض" .

فقد أكد أحدهم أن "استخدام الشعارات المسيئة على الشبكة العنكبوتية ليست من الإسلام في شيء (...) وأن هذه الكلمات الخادشة للحياء تدل على عدم حياء فاعلها (...) والإضرار بالناس وإيذاؤهم واتخاذ وسائل المعايرة والمعايبة يدل على تدني الأخلاق وانحطاط سلوكي لا يفعله إلا الذين لا يقدرون حدود الله ولا يراعون مشاعر الناس ، والتعليقات الساخرة على الشبكة العنكبوتية تدل على فقدهم أدنى مكارم الأخلاق ، ومن الواجب على المواطن الحر أن يبادر بإصلاح هذا الفساد الاجتماعي والتدني الأخلاقي لأن ذلك من باب تغيير المنكر ، وهذه الأفعال الرديئة حرام حرام ، ويجب الأخذ بشدة على مرتكبي هذه الجرائم المسيئة للدين والوطن ."

 وأكد آخر أن "الذين يسبون غيرهم بهذه الألفاظ المسيئة قد أساءوا إلى أنفسهم أولا لأنهم خالفوا تعاليم الإسلام ، وأساءوا إلى وطنهم ثانيا لأنهم حرضوا الناس على الإساءة وعلى أن ينطقوا بكلام سيء ، كما أنهم أساءوا إلى دينهم ثالثا لأنهم يظهرون أمام الآخر الذي لا يؤمن بالعقيدة الإسلامية أن الدين الإسلامي لا يحترم أبناءه ولا يحترم أتباعه فكيف بالذين يخالفون هذه العقيدة ؟"

بينما اتخذ ثالثهما موقفا أقل حدة ، فعلى الرغم من قوله إن "ما رأيناه على الشبكة العنكبوتية من سب وهمز ولمز محرم شرعا ولا ينبغي لأي شخص يؤمن بالله ورسوله أن يفعل هذا الأمر" فإنه لم يطالب بتوقيع العقاب الشرعي كما فعل سابقاه بل "طالب من شاركوا في هذا العمل المشين بالتوبة إلى الله والندم على هذا الفعل والعزم على عدم العودة له أبدا والاستغفار لمن أخطأ الإنسان في حقه (وهو هنا السيسي) " كما طالبهم باستخدام الشبكة العنكبوتية في "الأغراض المفيدة" .

لقد أثار هذا الهاشتاج الحمية في نفوس هؤلاء فهبوا يعبرون عن استنكارهم الشديد  لجريمة التفاعل معه والمشاركة فيه مطالبين بإنزال العقاب الشرعي الملائم (الذي لم يحددوه لنا بالمناسبة) على كل من شارك فيه أو تفاعل معه ، بينما لا نجد إزاء انتهاكات جسيمة تقع  لحق الإنسان في الحرية والكرامة وفي الحياة  سوى أصوات التأييد والثناء والمدح الذي يصل إلى درجة لا تجوز لأكثر الحكام عدلا ورحمة فما بالنا بنظام هو الأكثر بطشا وظلما واستبداد ؟

لقد أفرد عبد الرحمن الكواكبي في كتابه الشهير "طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد" مبحثا مستقلا بعنوان "الاستبداد والدين" تحدث فيه عمن أسماهم "علماء الاستبداد" أو "فقهاء الاستبداد" الذين يعينون المستبد على "ظلم الناس باسم الله" إذ أن كثيرا ما يحاول المستبدون "بناء أوامرهم أو تفريعهاعلى شيء من قواعد الدين" لضمان أن يتلقى الناس قواعدهم وأحكامهم تلك "بإذعان بدون بحث أو جدال" ولذلك يعمد علماء الاستبداد إلى تضليل الناس بتحريف الكلم عن مواضعه ، وبدلوا الدين وطمسوا على العقول حتى جعلوا الناس ينسون لذة الاستقلال وعزة الحرية بل جعلوهم لا يعقلون كيف تحكم أمة نفسها بدون سلطان قاهر ، فتحول الدين إلى آلة للأهواء السياسية .

تعد السخرية التي يعدها علماء الاستبداد إذا استخدمنا توصيف الكواكبي  "انحطاطا سلوكيا وتدنيا أخلاقيا وجريمة تستوجب العقاب الشرعي" إحدى الوسائل المعروفة لمقاومة الاستبداد من أجل هدم المكانة العالية التي يعمل المستبد على بنائها في نفوس الناس والقضاء على هيبته لديهم ، وقد عُرِف المصريون دائما بلجوئهم للسخرية من حاكميهم ، وقد وفرت وسائل التواصل الاجتماعي ومنها تويتر ساحة حرة للتعبير عن الآراء ونشر الأخبار في ظل إعلام الصوت الواحد .

المطلوب إذن من "المؤمنين" أن يتأدبوا مع المستبد وأن يراعوا مشاعره ولا يسخروا منه احتراما "للأخوة في الدين" ، وإذا حدث وأنساهم الشيطان "حقوق الأخوة" فعليهم ان يتوبوا ويستغفروا لمن أخطاوا في حقه ، وكأنه لا يُسأل عما يفعل وهم يسألون ، يقول الكواكبي : "يلتبس عليهم (أي على عوام البشر) الفرق بين الإله المعبود بحق وبين المستبد المطاع بالقهر ، فيختلطان في مضايق أذهانهم من حيث التشابه في استحقاق مزيد التعظيم والرفعة عن السؤال وعدم المؤاخذة على الأفعال  ، بناءً عليه لا يرون لأنفسهم حقا في مراقبة المستبد لانتفاء النسبة بين عظمته ودناءتهم (...) يعظمون الجبابرة تعظيمهم لله ويزيدون تعظيمهم على التعظيم لله لأنه حليم كريم ولأن عذابه آجل غائب وأما انتقام الجبار فعاجل حاضر" ، ويضيف في فقرة تالية "وهذه الحال هي التي سهلت في الأمم الغابرة المنحطة دعوى بعض المتبدين الألوهية على مراتب مختلفة حسب استعداد أذهان الرعية ، حتى يقال إنه ما من مستبد سياسي إلى الآن إلا ويتخذ له صفة قدسية يشارك بها الله أو تعطيه مقام ذي علاقة مع الله" .

لقد خدش اللفظ المذكور في الهاشتاج حياء هؤلاء وأثار استنكارهم وغضبهم فماذا عن ألفاظ أخرى أشد سوءا وقبحا يُسَبّ بها آلاف المعارضين المعتقلين بتهم جاهزة وملفقة في السجون وأقسام الشرطة وداخل مديريات الأمن ؟ وبينهم نساء وأطفال "تؤذيهم هذه الألفاظ" كما ذكر أحد الشيوخ المستطلع رأيهم . لا يقتصر الأمر بالطبع على هذه الإساءات المعنوية التي قد يكون وقعها على النفس أشد وأقسى من الانتهاكات الجسدية (ومنها انتهاكات جنسية واغتصاب كما تروي لنا شهادات المعتقلين المروعة ) والتعذيب البدني الذي تتنوع صوره وأشكاله وإن اتفقت جميعها في الوحشية وإهدار كرامة الإنسان وآدميته . وهناك مئات أو آلاف القتلى من المعارضين منذ الانقلاب العسكري .

ثم يأتي هؤلاء ليصفوا أحد أشكال المعارضة لنظام كهذا  بأنها فتنة وفساد في الأرض بدعوى استخدام ألفاظ خارجة ومسيئة لا يقرها الشرع ، بينما هم إزاء أفعال السلطة (التي تمثل الفتنة الحقيقية والفساد الحقيقي في الأرض والتي لا يقرها شرع ولا عقل ولا حتى فطرة سليمة) إما صامتون أو مؤيدون بكل ما أوتوا من قوة رافعين رموز هذه السلطة إلى منزلة الأنبياء وأولياء الله .

لقد قالها الكواكبي منذ أكثر من مئة عام : "اللهم إن المستبدين وشركاءهم قد جعلوا دينك غير الدين الذي أنزلت فلا حول ولا قوة إلا بك" .
 
رابط التحقيق على موقع الأهرام

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق