الاثنين، 23 ديسمبر 2013

شجرة البؤس - طه حسين






تروقني القراءة عن معاناة الناس ومآسي البشر ، أبكي معهم وعليهم وآسى لهم ، لذلك جذبني العنوان ، ولكنّه لم يكن دافعي الوحيد لشراء الكتاب ، بل أيضا ما كتبه طه حسين في صفحة الإهداء : "هذه صورة للحياة في إقليم من أقاليم مصر آخر القرن الماضي (يقصد التاسع عشر) وأول هذا القرن (العشرين) نقلتُها من صدري إلى القرطاس أثناء الرحلة في لبنان ، فمن الطبيعي أن أهديها إلى ها البلد الكريم ، اعترافا بما أهدى إليّ من معروف ، وما أسدى إليّ من يد ."
فأنا أيضا للبنان فضلٌ عليّ كبير .

بدا لي النصّ أقل كآبة مما يوحي به عنوانه .

أعجبني أسلوب طه حسين في هذا النص ، وبدا لي أسهل وأيسر من أسلوبه في "الأيام" .

أعجبني حديث "زبيدة" إلى زوجها "سليم" بعد أن سمعته يتحدث إلى خالد بأن أكثر أهل النار من النساء وقد "كان خالد فخورا مغتبطا لأنه سمع هذا الحديث من شيخه فأقبل فرحا يعيده عليك وقبلتَه أنت راضيا مسرورا وكأن لك عند النساء ثأرًا ، ثم مضيتَ تفسره وتعلله وتزيد فيه " صـ87

ومما قالته "زبيدة" لـ "سليم" ساخرة وهي تبدي رأيها في ما سمعت : " .. فأما أنتم معشر الرجال فأقلكم في النار وأكثركم في الجنة ، لأن الطاعة فيكم فاشية ، والمعصية فيكم نادرة ، ولأنكم لا تؤذون أحدا ، ولا تتقدمون إلى أحد بما يكره ، وإنما أنتم خير خالص لا يمازجه الشر ، وعسل خالص لا يشوبه العلقم . فأما أن تسوموا نساءكم سوء العذاب وأن ترهقوهن من أمرهن عسرا ، فإنما ذلك تأديب لهن . تستوفون ما لكم فيه من حق الطاعة ، وتتقربون بتأديبهن إلى الله . وأما أن تمسكوا نساءكم على ما يكرهن من الألم والبؤس ، وأن تعلّقوا على رءوسهنّ هذا السيف القاطع سيف الطلاق ، وأن تصوِّبوا إلى صدورهن هذا السنان الذي ينفذ إلى أعماق القلوب ، سنان التزوج بضرة تُدخلونها على الزوج في دارها وتُنَغِّصون بها حياتها ، وتذيقونها ألم الغيرة وشقاء الحسد ، وتورطونها في الغدر والكيد والنفاق ، فليس عليكم من هذا كله بأس ، إنما تستمتعون بما أتاح الله لكم من رخصة وبما أتاح لكم من حق . فإن ضاقت المرأة بشيء من ذلك أو أنكرته أو ثارت له ، فهي كافرة للنعمة جاحدة للجميل عاصية لله .... وأما أن يخون الرجل منكم زوجه أو أزواجه فيغدو على غير حقه ، ويأثم في غير حاجة إلى الإثم ، فخطيئة عسى الله أن يغفرها لكم ما دمتم تصلون وتصومون وتستغفرون ، والاستغفار يمحو الذنوب ويعصم أصحابه من النار . ألا ترون أنكم تسرفون على أنفسكم وعلى الناس حين لا تكتفون بتدبير أمور دنياكم على ما تحبون ، وإذا أنتم تدبرون أمور الآخرة على ما تشتهون أيضا ؟!"

فالمشكلة كما يتضح من حديث زبيدة ليست في النصوص ، وإنما في اتباع الهوى في تفسيرها وتطبيقها لإنقاص قدر النساء وتحميلهن مسؤولية كل وزر وكل خطيئة وكل فساد ، وذلك لا ريب من الظلم الذي لا يرضاه الله ورسوله ، ولا يُعْقل أن تُقرَّه شريعة السماء .

كما أعجبني الحوار الذي دار بين "خالد" و"سليم" حول الرشوة التي لا يسميها "سليم"
رشوة بل يسمي بعضها أجرا مستحقا ويسمي الآخر هدية مبذولة ، ويصر "خالد" على أنها رشوة لا تحل لآخذيها .
بينما يُحمِّل "سليم" الحكومة المسؤولية ويقول إن هي التي تضطرهم إلى ذلك لأنها لا تأجرهم الأجر المناسب الذي يكفل لهم حياة كريمة ويكفي احتياجاتهم ومن يعولون .

وهذه بعض المقتطفات من الكتاب :

"
ولا يكاد الشيطان يسمع الحروف الأولى من هذه الآية (الكرسيّ) حتى ينسلّ فزعا مذعورا . ولكنّ فزع الشيطان قصير الأجل ، وحيلة الشيطان طويلة المدى .
...
فقد كان الشيطان يألف أصدقاء "خالد" وأترابه ، وما أكثر ما يألف الشيطان من الناس ! وكان يُطلق ألسنتهم بكثير من القول ، فيه الإغراء بالمنكر ، وفيه الصرف عن المعروف ."

"
وقد كان خالد على ذلك كله معذبا في حياته بهذه الأهوال التي يكبرها له الشيطان ويجسمها في نفسه تجسيما ...
...
وكان الشيطان يتبع نفيسة حيثما توجهت من دارها ، فلا تكاد تلقى زوجها حتى يصوره الشيطان لها منصرفا عنها ضيقا بها زاهدا فيها ، فلا تكاد تسمع صوت زوجها حتى يخيل الشيطان إليها أن هذا الصوت يقطر بغضا لها ونفورا منها ."

"
وكان عبد الرحمن رجلا جلدا صبورا عظيم الاحتمال ... وهو ثابت لا يضطرب ، وقور لا تزدهيه الخطوب ... قليل الكلام كثير الصمت ، لا يغفل قلبه عن ذكر الله ، ولا تنسى نفسه أن تستخرج من آلامه مواعظَ وعبرًا ... وإنما يريد لامرأته ان تكون مثله هادئة ، رزينة كاظمة الغيظ ، صابرة على الخطب ، مسلمة امرها إلى الله ، قابلة قضاءه في رضا ، منتظرة قضاءه في ثقة ."

"
يسمع منها أبغض ما يسمع الرجل من امرأته ، شكاة من هذه ، ونعيا على تلك ، وعيبا للثالثة ، وثناء على نفسها ..."

"
وقد أُلقى في روعه أن التقرب إلى الله لا يكون بالاختلاف إلى هذه المساجد والحلقات ومجالس الدرس والوعظ فحسب ، وإنما يمكن أن يكون بأن يظل الإنسان على ذكر من ربه دائما ، يذكره إذا خلا إلى نفسه ، ويذكره إذا لقى الناس ، ويذكره حين يُقدم على العمل أو يحجم عنه ، فتكون خشيته لله هي التي تحمله على الإقدام أو الإحجام..."

وأود هنا أن أقول إن القاريء لهذا النص يلمس التأثير الكبير لـ"شيخ الطريقة" على مريديه ومتبعيه ، فإن قال شيئا أو أمر بشيء - كأن يتزوج فلان من فلانة مثلا - فقوله أمر واجب النفاذ ، وليس أمام المريدين سوى الطاعة وهم يرددون الآية الكريمة "وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم" !

"
ثم ضحكت له بوجه كأنه القرد (المقصود هنا نسيم الأمة السوداء التي كانت لأم خالد) ولكنه على ذلك كان جميلا في عين خالد ، يُجَمِّـله ما كان يغمره من حب وحنان .."

"
ولم يكن يُغني شيئا أن يقال للحاج عمران (وكان من أنصار الأمية) إنه ليس النبيّ ولا شيئا يشبه النبي من بعيد . فإذا كانت أمية النبي آية له ، فأمية الحاج عمران نقص فيه ، وإن العرب لم يفاخروا قط بأميتهم ، وإنما جاء النبي ليخرجهم من هذه الأمية ..."

"
والشيطان خبيث بغيض يندس إلى القلوب الطاهرة وإلى النفوس الزكية فيلقي فيها شيئا من فساد ، إلا أن يعصم الله هذه النفوس وتلك القلوب من نزغات الشيطان ... ولكنّ الشيطان وقح لا يعرف الحياء ، ملح لا يكره أن يثقل على الناس بما يوسوس في صدورهم من الشر الذي يغري بالإثم ويورط في سوء الظن ، يلتمس لذلك حيلا لا تحصى ، يوسوس بذلك مباشرة في صدور الناس أحيانا ، ويجري به ألسنة الأعداء والحساد والجهّال من الأصدقاء أحيانا أخرى ."

"
فالمؤمن حقا مكلف بأن يصل رحمه ويحسن القيام على أهله وداره وبنيه . والقيام على الأبناء وعلى ذوي القربى وأولي الأرحام واجب يعاقب المقصر فيه ويثاب الناهض به . وهو بعد هذا صدقة يضاعف الله جزاءه لمن يؤدونه على وجهه ."

"
ومتى استطاع الآباء أن يطيلوا الموجدة على أبنائهم ، أما الأبناء فما أقدرهم على أن يمضوا في القسوة على آبائهم " قالها عليّ لابنه خالد

"
أمسك عليك سرك أيها الرجل ، واحفظ على نفسك غيبها ، ولا تجعل من وجهك للناس كتابا مفتوحا يقرءون فيه من أمرك ما يشاءون . ليكتئب قلبك ما أرادت الأحوال أن يكتئب ، وليبتئس ضميرك ما شاءت الحوادث أن يبتئس ، ولكن ليكن وجهك مستوِى المنظر في أوقات الشدة والرخاء! فليس يعني الناس ما يصيبك من خير وشر ، وإنما أنت تثقل عليهم حين تلقاهم بوجه عابس إن تنكرت لك الدنيا ، وحين تلقاهم بوجه باسم إن ابتسمت لك الأيام . تثقل عليهم وتُغري شرارهم بالشماتة بك إن أصابك الضر ، وبالوجد عليك والحسد لك إن أصابك ما تحب ." قال سليم لخالد

وأقبلت زبيدة ساخطة متضاحكة معا تقول لزوجها "أما تنفكّ ترفع صوتك بكل شيء وتشرك الناس معك في كل شيء ، لقد كنت تلوم خالدا لأنه يجعل وجهه كتابا مفتوحا يقرأ فيه الناس من أمره ما يشاءون ، فهلا خافت بصوتك وقصرت نجواك على نجيك ، فليس كل الناس يحسن قراءة الوجوه ، ولكن أكثر الناس يحسنون الاستماع لك والفهم عنك إذا رفعت صوتك بكل شيء."

"
إنك لا تحسن احتمال المحنة ولا الثبات للخطب . إن مال الله غادٍ ورائح ، يصبح الإنسان غنيا ويمسي فقيرا ، وإن الرجل الكريم يحسن احتمال الفقر كما يحسن احتمال الغنى . وقد عرفت كيف تحتمل الغنى فكنت خيرا جوادا ، تواسي الضعيف وتطعم الجائع وتكسو العاري وتعين على نوائب الدهر . ولكنك لم تحسن احتمال الفقر ، فاستحييت وليس في الفقر حياء ، واستخذيت وليس في الفقر استخذاء . إنك حين تستخفي بفقرك وتتكلف ما تتكلف من الجهد لا تزيد على أن تلوم الله لأنه هو الذي يغني ويفقر . والله لا يلام ولا يُسأل عما يفعل ، ولكن نحن الذين يلامون ويُسألون عما يفعلون ."

وأعجبني حديث الكاتب عن التغير الذي طرأ على قلب "منى" تجاه ابنة زوجها "جلنار"(والتي لم يكن لها حظ من جمال) فجعلها تصر على أن تقيم ابنتها معها في الدار بعد زواجها دون أي اعتبار لتلك الفتاة البائسة (جلنار) التي تقيم معهم في الدار والتي سوف "يؤذيها هذا الجوار البغيض ويمزق قلبها تمزيقا ويحرقه تحريقا" لأنها سوف ترى "هذا الفتى الذي انتظرت أعواما وأعواما أن يكون لها زوجا" ، ولكنه تزوج في نهاية المطاف من أختها غير الشقيقة "تفيدة" . صـ156

ومن آخر صفحات القصة أقتبس لكم حوار منى وابنتها تفيدة :

منى : والله ما جرّ عليك آلامك وهذا البؤس المتصل الذي أنتِ فيه إلا الحسد والغيرة ، فقد زُففتِ إلى زوجك وإنّ في هذه الدار لقلبا يكاد الحسد يهلكه .
قالت تفيدة في شيء من غضب : والله يا أماه ما أدري ! لعلي أكون قد جنيت على نفسي حين أخذت ما ليس لي بحق .

قرأتُ طبعة الهيئة المصرية العامة للكتاب - 2010 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق